الشرارة الأولى في جحيم المصرفية العالمية !

سمير عابد شيخ

إذا أراد القارئ الكريم أن يستفيد من هذه الطّفرة التي نعيشها الآن، فليحصل على ترخيص لبنك صغير يعمل باحدى المدن الاقتصادية! ولنحلم أن مؤسسة النقد منحته هذا الترخيص لفتح بنك صغير بمدينة «سميران» الاقتصادية مثلا! ولنفترض أن قام مائة ألف من سكّان «سميران» بإيداع عشرة آلاف ريال لكل منهم، بحيث تصبح مجموع الايداعات مليون ريال.
القاعدة الأولى، هو أنّ البنك لن يحتفظ بأموال المودعين في خزائنه، بل سيقرض معظمها ولن يبقى سوى ثلاثة آلاف ريال كحد أقصى لكل مودع. فلو قرّرت المدينة الاقتصادية نقل أعمالها لمدينة أخرى، وذهب الأهالي لسحب أموالهم سيفاجؤون بعدم وجود كافّة أموالهم، وسيفرض عليهم البنك عمل طوابير طويلة على مدى أيّام عديدة. خلال تلك الفترة سيستنجد البنك بمؤسسة النقد لدعمه السريع، والاّ سينهار البنك لا سمح الله! أمّا اذا ازدهرت «سميران»، فسينتعش البنك ويستمر بأقراض أموال المودعين ليجنى الأرباح الطائلة
ولكن على البنك أن يطبّق نظام اقراض أو «ائتمان» يضمن استعادة أموال المودعين اضافة الى أرباح لصاحب البنك. ولكن اذا أتت بعض الظروف الاقتصادية العاتية، أو انتشر تعثّر سداد المقترضين، سيجد البنك انّ أموال المودعين تناثرت على شواطئ «سميران»! فاذا ما اتسعت فجوة الأزمة، سيضطر البنك لاعلان افلاسه، وسيضطر سكّان «سميران» ان يأكلوا «التبن» لا سمح الله!
هكذا بدأت أزمة «الرهون العقارية» الأمريكية. فلقد توسّعت بعض البنوك الصغيرة في تمويل المساكن، مستغلّة انخفاض الفائدة أي انخفاض تكلفة التمويل. وسارع الناس بالاقتراض، وتجاوبت معهم البنوك وأقرضت الفئات الاجتماعية الأدنى مقدرة في التسديد. ومن هنا نشأت عبارة الاقراض الأقل جودة (subprime lending). والذي” زاد الطين بلّة” هو أن امتلاك صك لعقار واحد يسمح لصاحبه أن يرهن الصك ويشتري عقاراً آخر، يتم رهن صكّه كذلك وشراء عقار ثالث. وهكذا امتدّت سلسة الرهونات العقارية.
ولقد شاركت المؤسسات المالية، بمختلف مسمياتها، في توسيع رقعة هذه الأزمة. فعندما تزايد “الزبائن” وتجاوزت البنوك الصغيرة حدودها في الاقراض، قامت بالاقتراض من البنوك المتوسّطة والتي قامت بدورها بالاقتراض من البنوك الأكبر والتي قامت بدورها بالاقتراض من البنوك الأجنبية خارج الحدود الأمريكية. وهكذا انتشر “فيروس” هذه القروض حتى بلغ تخوم الصين.
خلال تلك الفترة، قامت المؤسسات المالية باستخدام ما يسمّى “الهندسة المالية” بتنظيم آلاف الرهونات العقارية في مجموعات حسب مواقعهم الجغرافية وجودة مخاطرهم. وتم تغليف هذه المجموعات في صور أوراق مالية جديدة أسموها ورقة الرهن الاسكاني (RUMBS). وهكذا أصبحت كل ورقة مالية تحمل في بطنها عشرات الرهونات دفعة واحدة، فاذا تعثّرت الورقة سقط معها عشرات العمليات المالية دفعة واحدة.
كما شاركت مؤسسات التقييم مثل “موديز” لتحويل الرهونات متدنية الجودة الى قروض ممتازة باعطائها أعلى تقييم وهو AAA. ذلك أن هذه الأوراق كانت موزّعة على قاعدة عريضة من المقترضين مما يعني توزيع المخاطر. ولكن ظهور موجات التعثّر في سداد تلك القروض من عوام الناس وبالتالي من سلسلة البنوك، دفع المؤسسات المختصّة الى تخفيض تقييم هذه الأوراق.
عندها سارعت البنوك لمحاولة تغطيتها “عوراتها” ومراكزها المتضعضعة. فأخذت أكبرها تطالب الأصغر بسرعة التسديد، وأخذت البنوك الصغرى تضغط على عوام الناس لتسديد قروضهم. استصعب الناس ذلك خصوصا أن أسعار الفائدة ارتفعت مؤدية الى ارتفاع أقساط التسديد. تلك هي الشرارة الأولى لنيران الأزمة المالية العالمية التي نراها اليوم. وللحديث بقية ان شاء الله... وعيد مبارك.
smrshaikh33@gmail.com


للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 117 مسافة ثم الرسالة