الركود يدفع النفط إلى الانخفاض مما يؤثر على العوائد الخليجية وخطط الإنفاق

الأزمة تبرز حاجة المملكة ودول الخليج إلى مصارف ضخمة لتمويل المشاريع الكبرى

د. مقبل الذكير *

لاشك أن هذه الأزمة هي موضوع الساعة، ومن المهم بجانب الإجراءات الأحادية التي اتخذتها كل دولة على حدة، البحث في الإجراءات الاحترازية التي يمكن لكل دول المجلس اتخاذها جماعيا لتجنيب اقتصاداتها آثار هذه الأزمة الخطيرة. ومن المؤكد أن تتأثر دول المجلس بالأزمة المالية، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، رغم أن ذلك قد يحدث بطرق مختلفة وبدرجات متباينة. إذ يتوقع المراقبون أن تكون دبي من أكثر المراكز المعرضة للتأثر بالأزمة المالية بسبب مديونياتها الكبيرة.
ومع أن بعض البنوك الخليجية لم تعلن إلى الآن عن تعرضها لخسائر جراء تورطها في بعض القروض الثانوية والقروض العقارية إلا أنه من المعروف أن بعضها قد تأثر بالفعل. كما تأثرت صناديق الاستثمار المستقلة التي تستثمر أموالها في الخارج حيث تراجعت أصولها بشكل كبير نتيجة الأزمة.
ومع ذلك يبدو حتى الآن أن الآثار المباشرة للأزمة المالية على الاقتصاد السعودي والخليجي محدودة نسبيا مقارنة بأوروبا. إذ يقتصر تأثير الأزمة المالية المباشر بشكل رئيسي على تدني قيم بعض الاستثمارات الخاصة المباشرة في المصارف العالمية وتدني مستوى الإقراض المجمع، الذي قد يؤثر بصورة مؤقتة في تنفيذ المشاريع الضخمة في منطقتنا.
أما الآثار غير المباشرة للأزمة المالية على اقتصاد المملكة، فمن المتوقع أن تكون أكبر من الآثار المباشرة. فالركود العالمي سيدفع أسعار النفط إلى الانخفاض مما يؤثر على العوائد ومن ثم خطط الإنفاق الحكومي، إن لم يكن في هذا العام فربما يكون في العام القادم. إذ تقدر بعض الدراسات أنه لكي تتمكن المملكة من تحقيق توازن في الميزانية، فينبغي أن لا يقل متوسط أسعار برميل النفط عن 50 دولاراً. وكان وزير المالية الدكتور العساف قد أكد على متانة الاقتصاد المحلي في مواجهة هذه الأزمة، وأن البلاد لديها من الاحتياطات ما يكفي لدعم خطط التنمية ومشاريعها.
أما في ما يتعلق بالآثار المباشر، فكان محافظ مؤسسة النقد الأستاذ حمد السياري قد صرح في أواخر شهر رمضان الماضي، أن الأزمة المالية العالمية ليس لها حاليا تأثير مباشرة على اقتصادنا، ولا على بنوكنا السعودية. وأكد أن وضع البنوك جيد بسبب الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها المؤسسة للمحافظة على سلامة النظام المصرفي والتي كان لها أثر جيد في وقايته من الصدمات لكنه مع ذلك لم يستبعد ـ فيما لو تطورت الأمور- أن يؤثر استفحال الأزمة على الاستقرار المالي في المملكة بشكل غير مباشر إذا اتسع نطاق الركود في العالم.
وفي ذات الوقت أكد المحافظ عدم تأثر الاستثمارات الحكومية في الخارج جراء هذه الأزمة العالمية لأنها تدار بشكل متحفظ في مجالات منخفضة المخاطر، وعليه فإن وضعها حاليا جيد وكذلك عوائدها .
إلا أن تطور الأحداث دفع دول المجلس لاتخاذ مزيد من الإجراءات الاحترازية في الأيام القليلة الماضية. فقد أجرت مؤسسة النقد في المملكة تخفيضا على سعر إعادة الشراء (الريبو)، كما خفضت متطلبات الاحتياطي النقدي المطلوب من البنوك التجارية لإتاحة مزيد من السيولة لهذه البنوك. كما قامت بعدها بضخ ما بين ملياري دولار وثلاثة مليارات دولار في النظام المصرفي في شكل ودائع لتخفيف ضغوط السيولة في أول عملية ضخ مباشرة للدولار الأمريكي منذ نحو عشر سنوات. فقد قال مصرفيون: إن المؤسسة أودعت ما بين 200 مليون دولار و350 مليون دولار في كل بنك. كما أتاحت المؤسسة أيضا سيولة بالريال، وقال المصرفيون: إنها قد تضخ مبالغ أخرى بالعملة الأمريكية في ضوء الظروف الراهنة، وهذا يتناسب من دورها الأساسي في حماية النظام المصرفي التي جاءت قرارات المجلس الاقتصادي الأعلى قبل أيام مؤكدة عليه.
كما أجرت دول المجلس الأخرى، إجراءات مماثلة إما لتوفير السيولة أو لتدعيم الثقة في النظام المصرفي. وكانت حكومة الإمارات قد أصدرت قرارا بضمان ودائع عملاء البنوك، كما أن وزارة المالية ومصرف الإمارات المركزي ومسؤولي المصارف والبنوك العاملة في الدولة بحثوا مؤخرا في اجتماع بدبي آلية ضخ 70 مليار درهم في القطاع المصرفي، وكان رئيس الدولة قد أمر بها. وكانت صحيفة الاتحاد قد ذكرت إن وزارة المالية ومصرف الإمارات المركزي سيبدآن بضخ ثلث المبلغ أي ما بين 20 و25 مليار درهم (5.454 مليارات و6.81 مليارات دولار) في المصارف قبل نهاية الأسبوع الحالي على شكل ودائع لمدة عامين توزع بناء على حجم أصول البنوك. وفي الشهر الماضي أتاح البنك المركزي الإماراتي تسهيلا استثنائيا بقيمة 50 مليار درهم للبنوك بسعر فائدة إضافي على أسعار السوق، الأمر الذي أدى لارتفاع أسعار الفائدة بين البنوك منذ الإعلان عن هذا التسهيل.
وكان وزير الاقتصاد الإماراتي سلطان بن سعيد المنصوري قد أكد في تصريحات نشرت الأسبوع الماضي إن اقتصاد بلاده في وضع طيب يمكنه من تجاوز الركود العالمي، كما أن القطاع العقاري ليس مقبلا على تباطؤ في الأجل القريب. ونقل موقع البي بي سي الإخباري عن صحيفة الإمارات تأكيد الوزير المنصوري على أن اقتصاد الإمارات ثاني أكبر اقتصاد في المنطقة العربية ليس بصدد الدخول في مرحلة ركود لأن الإمارات نجحت في تنويع مصادر الدخل بدلا من الاعتماد على النفط. وأضاف أن التضخم في الإمارات الذي سجل العام الماضي أعلى مستوى منذ 20 عاما عند 11.1 % سينخفض على الأرجح العام المقبل بعد انخفاض أسعار النفط.
نظرة استراتيجية
وفي تقديري، أن هذه الأزمة تشير إلى بداية حدوث تغير في موازين القوى، يقتضي منا الاستعداد المسبق من الناحية الإستراتيجية لهذه التحولات الاقتصادية الدولية. فالعالم يمر فعلا بمرحلة تحولات تاريخية بدأت مع تلاشى الاتحاد السوفيتي وانهيار جدار برلين في تسعينيات القرن العشرين، وهو السبب الذي حدا بعدد من المفكرين للبحث والكتابة في أسباب صعود وهبوط الإمبراطوريات.
وعلى الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي ما زال هو الأكبر عالميا، إلا أن هناك تراجعا نسبيا في قوته ونسبة مساهمته في مجمل حركة رؤوس الأموال والتجارية الدولية. وفي ذات الوقت نلاحظ صعود قوى أخرى في أوروبا وآسيا. وهذا التراجع يذكرنا بالتراجع الذي حصل للقوة الاقتصادية للإمبراطورية البريطانية في النصف الأول من القرن العشرين، والذي تأكد مع نهاية الحرب العالمية الثانية حيث تبوأ الاقتصاد الأمريكي مركز القيادة العالمية.
فالاقتصاد الأمريكي يعاني من عجز مستمر في الميزان التجاري. أما عجز الموازنة الحكومة الأمريكية فقد بلغ حدا غير مسبوق في التاريخ البشري. وذلك بات الأمريكان يستوردون أكثر مما يصدرون، ويستهلكون أكثر مما ينتجون، ويقترضون أكثر مما يستطيعون. كما اندفعت مؤسساتهم المصرفية والمالية اندفاعا محموما نحو توريط أفراد المجتمع في قروض هائلة، ثم تخارجت منها بإعادة تصكيكها وبيعها لمؤسسات أخرى داخل الولايات المتحدة أو خارجها بعد تصنيفها زورا بسلامتها من المخاطر. وقد تسنى لها ذلك من خلال سياسة حرية السوق المطلقة وقلة الضوابط الحاكمة على هذه المؤسسات المالية. وهي السياسة التي وجدت فيها هذه المؤسسات مجالا خصبا لممارسة الجشع والطمع في أبشع صوره الإنسانية، من أجل تحقيق مزيد من الأرباح لفئات محدودة في المجتمع على حساب بقية الخلق. كل ذلك باسم هذه الحرية المزعومة التي تعلي من حظوظ الفرد على حساب مصالح مجموع البشر.
ونحن نحتاج استراتيجيا لمتابعة هذه التغيرات الكبرى لأنه كلما استطعنا أن نرصدها مبكرا، كنا أقدر على توجيه علاقاتنا واستثماراتنا التوجيه الأصلح والأسلم والأبعد عن مخاطر الانهيارات الكبيرة والخسائر الضخمة. خاصة أن الدول الكبرى في العالم تنوي الاجتماع في منتصف نوفمبر المقبل في واشنطن لإعادة هيكلة النظام المالي الدولي بوضع ضوابط تمنع تكرار ما حدث. ومن المتوقع أن تجري بعض الإصلاحات على الأنظمة المالية، بما في ذلك توفير الضمانات القانونية للمودعين والمزيد من المراقبة على استثمارات المصارف ومخصصات الإدارة العليا للمصارف.
وعموما يبدو حتى الآن أن مصارفنا وأغلب مصارف دول مجلس التعاون لا تعاني بشكل خطير من هذه الأزمة، إذ لم نر أيا منها يتعرض لصعوبات تتعلق بتلاش في رؤوس أموالها. وذلك بسبب اعتماد هذه المصارف بالدرجة الأولى على الإيداعات المباشرة وانخفاض اعتمادها على الاقتراض من بعضها البعض أو من السوق.
وبجانب الإجراءات الاحترازية التي يتوقع أن يبحثها وزراء مالية دول المجلس لمواجهة الأزمة العالمية، أن يناقشوا أيضا مستقبل مشروع العملة الموحدة في ظل التطورات الجارية.
ويعتقد عدد من المراقبين المتخصصين أن الأزمة تبرز حاجة المملكة ودول الخليج الكبرى إلى مصارف ضخمة لتمويل المشاريع التنموية الكبرى في دول المنطقة. وتوجد فرصة حقيقية لبناء قطاع مصرفي عملاق مبني على أسس علمية سليمة ولا يركز نشاطاته على خدمة عدد محدود من الملاك الرئيسيين للمصارف. لكنه مثل هذه المصارف تحتاج إلى رأس مال ضخم، وإلى نظام مالي ومصرفي أكثر شفافية، وإلى المزيد من الضمانات الحكومية، والطاقات البشرية ذات الخبرة العالية لكي تتمكن فعلا من تلبية احتياجات المنطقة والمنافسة على المستوى العالمي.

* أستاذ الاقتصاد بجامعة الملك عبد العزيز