الأخلاق والمصالح

كاظم الشبيب

ما يجري في بعض بلداننا الإسلامية من صراعات لا تتوقف كما هو الحال في الدول المصبوغة بالتنوع السكاني دينياً وإثنياً.. يثير في العقل الوجداني التساؤل عن مدى تأثير خلفياتنا العقدية والفكرية والثقافية في ضبط وتشذيب طريقة إدارتنا لأنفسنا ولصراعاتنا؟ وأيهما يحكم الأخر الأخلاق أم المصالح؟
فمن العجائب التي مر الإنسان بها على مدى التاريخ تحوله من متلقٍ لفيض الرحمة الإلهية، ليسود العدل والإحسان والمساواة وحب البشرية جمعاء، إلى إنسان متوحش يعادي حتى أقرب الناس إليه. من هنا تأتي أهمية الفلسفة الأخلاقية سواء كانت نابعة من السماء أو من مدارس الإنسانية بتجاربها على الأرض، لأنها تتحد كلها في استهدافها إقامة نظام أخلاقي يهذب المجتمعات من أجل أن تتعايش وتستوعب اختلاف فكر ولون وانتماء بعضها البعض عبر تطوير المنظومة الأخلاقية بشكل مستمر.
قد قدمت اليهودية فكرة الوحدانية الأخلاقية من خلال ما يعرف بالوصايا العشر. ووضع أصحاب الاتجاه الأخلاقي من النصارى مذهباً أخلاقياً مستمداً من الطبيعة البشرية وقائماً على الفضائل الإغريقية. وقضايا السلوك هي لب الرسالة الإسلامية التي لخصها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في قوله: «إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق».
وتؤكد الهندوسية، كما المذاهب البوذية والكونفوشية، أمر التعاليم الخُلقية، وكل منها يساند المعايير الأخلاقية من عطف واعتدال واجتناب العنف. وكذلك سعى فلاسفة الإغريق والرومان حتى في أثناء الاضطراب الاجتماعي الذي تميز به العصر الهيلينستى (اليونان) والعصر الإمبراطوري الروماني...
وتتكامل في المجتمعات، وتالياً تنضبط إيقاعاتها نحو الحد من التوترات وتخفيف حدتها، وعقلنة حدة التنافس بين مكوناتها، من خلال وضع وصياغة، ما عُرف عبر الزمن، بالأخلاق المهنية عند أصحاب كل حرفة، بما فيهم من احترفوا العمل السياسي. هذا الأمر ما هو إلا انعكاس للتوجهات الأخلاقية النابعة من كل فلسفة على ميادين الحياة المختلفة.
لذا أجمع المهتمون بدراسة العلاقات الدولية في العلوم والعمل السياسيين على ضرورة ما يُعرف اليوم بـ «الأخلاق الدولية- International morality”، وهي مجموعة مبادئ سلوكية عامة وأفكار خلقية معنوية يفترض مراعاتها في علاقات الدول المعاصرة في ما بينها حرصاً على مصلحة البشرية كمجموع وحماية لحقوقها ومصالحها كوحدات عليها أن تتعايش مع بعضها البعض.
وأن تتبادل المنافع من خلال التعامل المستمر. وتشمل هذه المبادئ الاحترام المتبادل في الاستقلال والتقدم وحق هذه الدول في تقرير مستقبلها بنفسها واحترام العهود والابتعاد عن الخداع ومراعاة كرامة الدول الأخرى وإبداء التضامن وتعميق الروابط والتفاهم عن طريق تحقيق التعاون المتبادل في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخصوصاً إبان الكوارث والنكبات. كذلك فإن الأخلاق الدولية تملي القواعد التي تجب مراعاتها حتى في زمن الحرب سواء بالامتناع عن استخدام الغازات السامة أو العناية بالجرحى ومعاملة سجناء الحرب بشكل لائق. ولقد عزز الأخلاق الدولية نشوء المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الإقليمية مثل منظمة الوحدة الإفريقية، إلا أن الأخلاق الدولية لم تصبح بعد قانوناً دولياً إلزامياً وإنما تكمن فعاليتها الأساسية في احتمالات تعرض الدول المخلة بالأخلاق الدولية إلى الضرر نتيجة ردة الفعل من قبل الدول الأخرى.
وفي ضوء ما سبق نخلص إلى أهمية وضرورة عودة المجتمعات المتعددة التنوع إلى أصولها الفكرية الصافية لتنهل منها ما يشذب سلوكها السياسي كمقدمة لأي مخرج قابل للتطبيق العملي لمشكلة الطائفية، لأن الأخلاق الطيبة تفضي إلى طيب العشرة والتعايش، ومن ثم تستوعب المجتمعات تنوعها الذاتي ومحيطها المغاير، بينما سوء الخلق يفككها ذاتياً وينفر محيطها الخارجي عنها.
وأكد ديننا الإسلامي على هذا البعد ولخصه في قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم- جاء في كنز العمال: «الخُلقُ وعاء الدين»، وقوله عليه وآله أفضل الصلاة والتسليم: «الإسلامُ حُسنُ الخُلق»، وقوله أيضاً: «إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق». وقد صدق الشاعر عندما قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
kshabib@hotmail.com


للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 141 مسافة ثم الرسالة