فلنوسع دوائر انتماءاتنا

كاظم الشبيب

عندما تبرد وتيرة الصراع يتنفس المتصارعون وتياراتهم وشوارعهم الصعداء كي يرتبوا صفوفهم ويستعيدوا قوتهم، وربما يعمل بعضهم على مراجعة المواقف ودراسة الحكمة المطلوبة لجمع الشمل عبر النقاط السياسية المشتركة مع الآخرين. بيد أن القليل منهم من يسعى للعودة والبحث عن الأصول المشتركة كأساس لانطلاقة مستقبلية للجميع.
ويمكن الاستشهاد بالتفاصيل اليومية لمجريات الأحداث في بعض البلدان العربية والإسلامية.
ففي العراق، على سبيل المثال، تتراوح ولاءات الفرد أو الجماعات بين الولاء للعشيرة والمذهب والدين والوطن والقوم والعرق، فأيهم الأصل، وأيهم الفرع، ومن وكيف يقدم بعضها على بعض؟
من تلك الأصول خيارات دوائر الانتماء بالنسبة للفرد والجماعات.
فعندما تتزاحم الولاءات يحتاج الإنسان إلى مرشد حكيم يساعده على ترتيب أولويات تلك الدوائر حتى يتسنى له التعامل والتفاعل السلس معها جميعاً دون الشعور المعقد بالتضارب بينها أو التضاد، مع قناعتنا بأن التزاحم حالة مصطنعة أكثر من كونها حقيقية.
ترتبط دوائر الانتماء الفردي والجماعي بالهوية أو الهويات المتعلقة بالمرء نفسه.
فمنذ ولادته تبدأ هوياته المتعددة بالتشكل تجاه لونه وعرقه وديانته ومذهبه وطائفته وقوميته وجنسيته.
بعض تلك الهويات لا يمتلك حرية الاختيار في اختيارها كلون بشرته أو عرقه اللذين ورثهما عن أبويه وقوميته التي تربى في حضنها الاجتماعي. أما بعضها الآخر، ومع التقدم في العمر، فيمكنه تغييرها. أي لا يتمكن الإنسان من تغيير أصوله، النابعة من الدم والتسلسل البشري الطبيعي، التي ولد عليها، ولكنه يتمكن من تغيير ما يتعلق بخياراته الفكرية. رغم ذلك لا يمكنه التنصل مما غيره، بل تبقى تلك المتغيرات مرتبطة بسيرته الذاتية فيقال عنه إنه من أصول كذا أو كذا.
تلك الهويات تعني تحديد مكان ونوع انتماءات الفرد وتوجهاته الإنسانية والاجتماعية والسياسية..
وبالتالي تتحدد دوائر الانتماء التي يرتبط بها، ومن ثم تتدرج درجات دوائر الانتماء و درجات الارتباط بها، ومقدار الولاء لكل دائرة، وحجم التفاعل معها، وترتيب أولويات دوائر انتمائه ومن منها يُقدم على الآخر إذا ما تزاحمت في العطاء والتضحية تجاه بعضها البعض.
ونحن ممن يعتقدون بأن لا وجود لمصاديق فعلية على أرض الواقع للتزاحم بين تلك الهويات، وإنما هي مزاحمات وهمية من صنع البشر أنفسهم.
الهوية الأولى التي ينتمي لها كل البشر، وهي الدائرة الأولى لتشكل هوية الإنسان، اشتراكه، منذ ولادته، مع كل الناس بالعودة للسلالة الأبوية الواحدة، وهما أبو البشرية أدم عليه السلام وأم البشرية أمنا حواء.
هذا الارتباط الذي لا ينكره أحد على وجه الأرض، هو ذاته يتعرض للتشويه من قبل بعض الناس، والتناسي عبر طغيان الهويات الفرعية والأصغر أمام الهوية الأم.
ما ساعد على بقاء الهوية الأم خاوية من الروح، رغم كونها منطلقاً لقيام الديانات والمدارس الفلسفية، فقدانها لمفاعيل عملية تعبر عنها وتمثلها وتجسدها في قيام وضبط العلاقات بين المجتمعات والدول.
بينما تتحقق للهويات الأخرى، كالدين والوطن والعرق واللون، مصاديق عملية تعبر عنها وتمثلها وتجسدها وتحشد الأتباع من أصقاع الأرض حولها.
هذه الإشكالية تتكرر بصور ومسافات مختلفة في تفكيك أو توثيق العلاقات المتآلفة أو المتنافرة بين الهويات والأفراد والمجتمعات والدول.
كلما اتسعت دوائر الانتماء وكبرت تمسي قادرة على استيعاب أغلب الناس مهما اختلفت تفاصيل هوياتهم الفرعية، وهذه الميزة الحسنة تجعل الدوائر الأوسع حسنة وجميلة في جاذبيتها الطبيعية.
بينما تضييق دوائر الانتماء يعني رفض دخول الناس إليها، وبالتالي التنافر معهم، وهذه الصفة السيئة تجعل الدوائر الضيقة بغيضة وقبيحة كونها مصطنعة مقارنة بالهويات الواسعة والشاملة. فهل تعود المجتمعات المتصارعة إلى أصولها قبل أن تقتلها فروعها؟ نأمل ذلك. والله من وراء القصد.
kshabib@hotmail.com


للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 141 مسافة ثم الرسالة