كنت أنتمي إلى قبيلة بدوي

جعفر عباس

قبل أيام قليلة، خرجت علينا وكالة رويترز للأنباء بتقرير عن قبيلة إندونيسية تحمل اسم «بدوي»، لا علاقة لها بالعصر الحديث أو الوسيط، أي أنها من النوع الذي يوصف بالبدائية، وتعيش القبيلة على الزراعة ولا تربي الحيوانات ذات الأربع.. يعني لا تربي سوى الدجاج.. أكثر ما أعجبني في حياة أفراد هذه القبيلة الذين لا يزيد عددهم على خمسة آلاف، أنهم يرفضون السيارات والمسامير والخمر والزجاج.. كل واحد منا يعرف أكثر من واحد كان ضحية سيارة وكيف أن السيارات تقتل من الناس أكثر مما يقتل التدخين.. وتعجبت كثيرا لكون هذه القبيلة تحرم الخمر في حين أن الصورة النمطية للقبائل البدائية عموما هي أنها تدمن الكحول أو المخدرات.. التعليم أيضا ممنوع عند قبيلة بدوي.. وليتنا أتينا بخبراء من هذه القبيلة ليخلصوا عيالنا من مدارس حولتهم إلى ببغاوات وأحالت بعضهم إلى مستشفيات الأمراض النفسية.
ولكنني استغربت اهتمام رويترز بكون أفراد هذه القبيلة لا يتعاملون بالصابون.. قبل سنوات -ليست بالبعيدة وفي شمال السودان مهد الحضارة النوبية، التي سبقت حضارات الفراعنة، في وادي النيل، والإنكا في امريكا الجنوبية- كان هناك صبي يعاني من فوبيا وانهيار عصبي ورعشة كلما رأى قطعة صابون.. كان ذلك في القرن العشرين وهو القرن الذي تم فيه اختراع الطائرات النفاثة والتلفزيون والكمبيوتر والأيسكريم بنكهة الكريم كراميل (هذا النوع رهيب).. لم يكن أهل شمال السودان يعرفون سوى نوع واحد من الصابون هو المستخدم في غسل الملابس، ولكنهم كانوا يستعملونه أيضا للاستحمام، وكان الصبي يرغم على الاستحمام مرة في الأسبوع .. بالتحديد يوم الجمعة وكان أحيانا يتمارض او يفتعل مشوارا كي ينجو من الاستحمام بصابون مصنوع من نفس المادة التي يصنع منها ورق السنفرة.. كان ذلك الصبي هو صاحبكم أبو الجعافر (ما غيره).. حتى عمر عشر سنوات كانت أمي تتولى «تحميمي» في طشت في «نُص» الحوش، ليس لأنني لم أكن أعرف طرق الاستحمام ولكن لأنني كنت من الذكاء بحيث لا يمكن ان أعرض نفسي للبهدلة بفرك جسمي بصابون مصنوع من نشارة الحديد.. كنت أولول بأعلى صوتي عندما يأتي الدور على غسل الرأس،.. فإذا تسربت نقطة من رغوة ذلك الصابون الحقير إلى العين كنت تحس بنفس إحساس من قام بتكحيل عينه بالشطة .. وعندي عيال متخلفون عقليا بدليل أنهم يستحمون مرتين في اليوم أحيانا فأنظر إليهم مشفقا ومعجباً.
كنا فين وبقينا فين.. عندي اليوم صابون حمام لو رأيته في طفولتي لحسبته نوعا من الحلويات بسبب رائحته الحلوة.. وعندي بانيو ولكن لم يحدث قط أن ملأته بالماء وجلست فيه.. وصرت استخدم عطر ما بعد الحلاقة (أفتر شيف)، وبعد الاستحمام لا أكون مضطرا إلى نقل الماء الناتج عن استحمامي والمتجمع في جردل/سطل يقبع داخل بالوعة، لرشه خارج البيت تعميما للفائدة.. سبحان الله يعني كنت وإلى عهد قريب أنتمي إلى قبيلة بدوي هذه ولكن رويترز لم تكتب عني.. وبصدق صرت أحن للعيش في بيئة شبه بدائية ليس فيها سيارات أو شرطة أو تلفزيون، بس لازم تتوفر فيها الكهرباء فما زال بي بعض خوف من الظلام كما أنني اعتبر الثلاجات والمكيفات أهم الاختراعات عبر التاريخ كله.
jafasid09@hotmail.com

للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم
88548 تبدأ بالرمز 151 مسافة ثم الرسالة