أسباب العنف المباشرة

سلمان بن فهد العودة

هذه الأسباب هي المسؤولة مسؤولية أولية، وتتحمل التبعة بقدر أو بآخر ومنها:
1- مسألة التجنيد، بنشر الأفكار المنحرفة وترويجها والمجادلة عنها عبر الإنترنت أو الفضاء أو العلاقات الشخصية أو الكتابات.
ولا شك في أن اكتشاف خيوط التجنيد والتعرف على المستهدفين وقطع الطريق عليهم هو مهمة صعبة ولكنها ضرورية، وفي جانبها الأمني فلا أحد ينكر ضرورة الوعي واليقظة ومنع حدوث أية جريمة تحت ذريعة العنف أو الإرهاب، وتتبع المجرمين وحرمانهم من تكرار الفعل, أو من التمتع بالفرحة إزاء مشاهدة الأشلاء والضحايا والتدمير والقتل والإعاقة وزعزعة الاستقرار.
وفي الوقت ذاته حرمانهم من أن يشاهدوا النار تتسع والاستهداف والملاحقة تمتد لتطال أبرياء؛ لأن هذا بالضبط هو ما يريدونه، حيث يقع ما يسمونه بـ (خلط الأوراق) والذي يعدونه نجاحاً لهم وكأنهم يتصورون أن مهمتهم هي تجنيد الغاضبين والساخطين ومن وقعت عليه تهمة لا حقيقة لها، فتكون نفوسهم قابلة للانضمام خاصة أنهم غالباً يشتركون معهم في الهيئة والشكل والتوجه العام، فالتضييق عليهم يقطع ما تبقى لهم من صلة بمجتمعهم ومؤسساته، ويعطيهم دفعة نفسية وعاطفية لمشاركة أولئك الذين تمّ ضمهم إليهم بالتصنيف الخطأ.
يجب أن نكون صرحاء، وأن لا نعتبر أن المتدين هو إرهابي, ولا حتى المتشدد هو إرهابي، فثمة من لديه تشدد يحتاج إلى معالجة وتصحيح أو إلى عزل أفكاره, بحيث لا تكون هي السائدة, لكن يُضمن له حقه في الحياة الكريمة والعيش والعمل والحقوق. والمتشددون موجودون في كل ملة ونحلة وديانة , وفي كل مجتمع ومذهب , ولن تخطئ قراءة أسمائهم في الكنسيت اليهودي , أو في الكونجرس , أو الدوائر الأمريكية والغربية, ومنهم من لا يؤمن بكثير من المسلمات العلمية , أو يلتزم بألوان من السلوك الاجتماعي الصعب والغريب, ولكنه لا يدين بالعنف أو القسوة أو استهداف الآخرين, أو استخدام القوة تحت أية ذريعة.
لقيت مرة دكتورة في الجامعة ذات ثقل علمي , ووجدتها في بريطانيا تمتنع من شرب الشاي لدافع ديني.
إن محاصرة أنماط السلوك الشخصية لمجرد التشابه مع طائفة معينة قد يضر بمبدأ العدالة وحفظ الحقوق, ويفضي أحياناً إلى التجنيد من حيث لا نريد.
2- ومنها مسألة الخطاب الديني, والعنف المتحدث عنه منطلق من خطاب ديني , فليس هو في دورته الحالية ماركسياً أو وطنياً , بل هو مؤسس على عاطفة دينية , ولا أقول على رؤية دينية.
إن الرؤية مفقودة , والمعرفة ضعيفة أو غائبة , ولكن ثمة مشاعر وإحساسات شخصية, متدينة أو منحرفة ؛ اكتشفت الدين فجأة, ووجدت فيه ملاذاً , ثم صبت كل مشاعرها في أي نص يقابلها.
التكفير مثلاً , مبدأ يرفضه الدين ويحذر منه، ويكفي أن لدينا عدداً من النصوص الصحيحة الصريحة المتواترة في التحذير من التكفير, على سبيل المثال:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا ». رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي.
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : « مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ ». رواه البخاري ومسلم
وعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِناً بِكُفْرٍ فَهْوَ كَقَتْلِهِ » البخاري ومسلم بينما لا نجد أي نص يحث على التكفير, أو يدعو إليه, أو يعتبر الإنسان مسؤولاً عن الحكم على الآخرين.
أما القواعد الكلية في حفظ حقوق الناس وعدم القول عليهم بغير حق؛ لا في أعراضهم ولا في أديانهم؛ فهو باب واسع جداً ينتظم مئات النصوص القرآنية والنبوية.
ففعل التكفير هو نوع من الانتقام يكون عند صاحبه أبلغ من مجرد الشتم أو السب أو التخوين.
وهكذا استحلال الدم الحرام، فيه من النصوص ما لا يخفى، لكن حين تثور في نفس المبتلى نزعة الغضب الأعمى؛ سيبحث عن أي ملابسة نصيّة تدعمه.
وهنا يأتي دور الأئمة والمفتين والعلماء في التوعية الصادقة بالشريعة, وحفظها لمقامات الناس وحقوقهم، وتحذيرها من الجراءة على الدماء والأعراض والأموال، وإشادتها بالوحدة والاجتماع، وحفزها على الاستقرار ورعاية الأمن والمصالح، والدندنة حول هذه الموضوعات في الوسائل المختلفة، وفي كافة الظروف، فهي ليست ملفاً للطوارئ يُستخرج حين الحاجة إليه، ثم يعود إلى أدراجه المغلقة؛ هي ثقافة إنسانية إسلامية يجب أن تظل حيّة في كل الأحوال، وأن يتواصى العلماء والفقهاء بعرضها، وتصريف الحديث عنها.
إن الحديث مرة عن شيء منها لا يعني أن المهمة انتهت، بل يجب التناول من نواح عدة، وبأساليب شتى، ومخاطبة كافة الشرائح، وعلى مستوى لغات متنوعة، وسرد النصوص والقصص والوعد والوعيد، وإقامة الحجج وتفنيد الأباطيل, ومعالجة الشبهات بصبر وطول نفس وبلغة علمية سهلة، وإذا اقتضى المقام هجوماً على بعض الضلالات والانحرافات فلا حرج؛ بل هو معنى مطلوب , شريطة أن لا يكون الهجوم هو منطلق البيان والبلاغ، لكي تكون لغة الشريعة الهادية، ولغة البلاغ القرآني الصادق هي المحكّمة.
يجب أن يكون في بلاد الإسلام حضور دائم لخطاب ديني معتدل ومستقل في الوقت ذاته، فإن الخطاب الديني حين يُوظّف لا ينفع ولا يؤدي دوره كما يجب.
الخطاب يجب أن يكون معتدلاً بعيداً عن الشطط أو الغلو أو الإغراق في التفصيلات والفروع، ملامساً للواقع، ملتزماً بالتقوى والإخلاص ومراقبة الله، ومراعاة مصالح الفرد والجماعة والدولة والأمة، متوسطاً لا يميل إلى الأقوال الغالية أو المتشددة، ولا إلى الأقوال الجافية المتحللة.
ويجب أن يكون مستقلاً ينطلق من ذاته وقناعاته ورؤيته الشرعية والتزامه الربانيّ. وهذا هو المصداق العملي لقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135).
يجب أن ندرك أن وجود هذا الخطاب في كل مجتمع هو ضمانة حقيقية لأمنه, بل لوجوده، وبقدر ما يُمنح من الاستقلال والحرية يملك أن يؤدي دوراً أكبر، بل في حفظ حدة المجتمع وقطع دابر الغلو والتطرف، وتشجيع مبادرات النمو والتطور والنهوض الذي تحاوله المجتمعات العربية والإسلامية.
والحديث حول صياغات هذا الخطاب وآلياته وكيفية إعداد كوادره ورجالاته... إلخ له مجال غير هذا.
3- ومنها مسألة الأحداث الدولية، وقد تعمدت وضعها ضمن الأسباب المباشرة، مع علمي أن هذا لا يخلو من منازعة، لأنني لمست بصفة شخصية مباشرة كيف تؤثر أحداث كغزو أفغانستان أو غزو العراق أو أحداث فلسطين أو نحوها في نفسيات الشباب، وكيف ترفع وتيرة الاهتمام لديهم، وتعميهم عن العقلانية والمنطق أحياناً , لتجعلهم قابلين لسماع كل صوت يُلوح لهم بالنصر.
إنني أُصدق مقالة أن التجنيد الأكبر للإرهاب يتم أحياناً عبر البيت الأبيض، أو مكاتب رؤساء الوزارات في دول اختارت الحرب, ودقت طبولها لأي سبب.
الحرب تقول للناس: لا تتعاملوا بهدوء، ولا تتحدثوا بمنطق، ألغوا عقولكم، وأشرعوا سواعدكم، وهي تُحفز حتى من لا يملك آلة الحرب؛ ليتصرف بطريقته الخاصة، أعمى عن رؤية النتائج.
وبعض المحللين قد يميل إلى أن هذا مقصود، أي تحريك أطراف ضعيفة ليتم الانتصار عليها ضمن جوقة إعلامية ضخمة. وسواء صح هذا، أم لم يصح، وهو ما أميل إليه، فإن أي حرب تقع في المنطقة ستُسهم في رفع حظوظ العنف وإمكانية انفجاره بطريقة أو أخرى، بصورة دينية أو لا دينية.
إنني أقول بمسؤولية: إن حرباً قد تشنها إسرائيل أو أمريكا على إيران ستعيد أجواء العنف الأعمى بصورة يصعب التنبؤ بها.
والعقل السياسي الرشيد يؤمن بالمشكلات والأزمات ولكن يؤمن بالحلول أيضاً (وما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواءً)، فنسأله سبحانه أن يجعلنا من البصراء الحكماء الذين يعرفون الداء ويصفون الدواء.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 138 مسافة ثم الرسالة