العودة إلى الحضن الأوروبي

صالح عبدالرحمن المانع

هل هناك غزل يدور بين أوروبا والولايات المتحدة، أم أن التجارب المرّة للإدارة الأمريكية وحروبها في العراق وفي أفغانستان، أقنعت هذه الإدارة أنها لا يمكن أن تدير العالم من عاصمة واحدة، وأنها بحاجة إلى أياد دبلوماسية خبيرة تساعدها في إدارة شؤون الإمبراطورية.
الزيارة الأخيرة للرئيس بوش لفيينا، وهي أول زيارة لرئيس أمريكي لهذه المدينة منذ سبعة وعشرين عاماً ترينا أن هذه المدينة، وهي عاصمة إمبراطورية قديمة عادت مرة أخرى لتلعب دوراً مهماً في الدبلوماسية الدولية. ولئن كانت هذه العاصمة حجة الدبلوماسيين قبيل الحرب العالمية الأولى، فها هي اليوم، وكعاصمة مؤقتة للاتحاد الأوروبي، تعود لتلعب الدور نفسه الذي كانت تلعبه في المنتظم الدولي، في القرن التاسع عشر، كنقطة توازن بين قوى جامحة في شرق القارة وغربها.
في الستينات والسبعينات كانت فيينا كذلك عاصمة الدبلوماسية والحوار بين الشرق والغرب. وكانت بموقعها المتوسط بين موسكو ولندن، وبسياستها المحايدة، المكان المفضل لاجتماعات الأمريكيين والروس، ومفاوضات (لي دك تو) الفيتنامي ونظيره هنري كيسنجر، ونجحت تلك الاجتماعات، بعد لؤي بإيجاد حلّ للحرب الفيتنامية، وخروج سريع للقوات الأمريكية من فيتنام الجنوبية.
اليوم في العراق، يحاول الرئيس بوش إيجاد مخرج مشرف لقواته من ذلك البلد، وهو في نظرته المتحاملة ضد الفلسطينيين، كما يقول وزير الخارجية النمساوي، غير قادر على إيجاد نظام عادل ومتوازن في الشرق الأوسط، فقد اختلطت مفاهيم القوة بالدين والإيديولوجيا لتخلق تطرفاً سياسياً لدى نخبة المحافظين الجدد الذين يحيطون ببوش وبأركان إدارته. لذلك فإن فهمهم لوضع ومأساة الفلسطنيين ينطلق من تل أبيب، وليس من خلال فهم أعمق للمصالح الأمريكية نفسها.
والتهور الذي قاد السياسة الأمريكية خلال السنوات الخمس الماضية قاد هذه الإدارة إلى مآزق تلو أخرى. ولم يكن العتاد الأمريكي والقوة العسكرية قادرة على تحقيق أحلام الطموحين والمغامرين بل على العكس قاد هذا الجموح العنيف إلى خلق عنف مضاد أعمى يحصد الأخضر واليابس في معظم مناطق المشرق العربي. كما أن هذه السياسات جاءت بطبقة جديدة من الزعماء السياسيين المنتخبين في بلدان عديدة في أمريكا الجنوبية والذين يسعون إلى الابتعاد عن السياسة الأمريكية، ورفع شعار الوطنية والاعتزاز بالتراث القومي لهذه الدول الناطقة بالإسبانية.
وهكذا فبدلاً من جذب العالم إلى الحلم الأمريكي بالسلام والعدالة، نجحت سياسات الرئيس بوش في استفزاز شعوب عديدة في العالم اللاتيني مثلما استفزت مشاعر الشعوب العربية والإسلامية، ولاشك أن لجوء بوش وإدارته إلى الحضن الأوروبي ليس جديداً، فالإدارات الأمريكية المتتالية كانت تنظر على الدوام إلى أوروبا وكأنها الأم الرؤوم التي تقود بعقلها ذلك الشاب الطامح القادم من القارة الجديدة.
ولجوء بوش إلى أوروبا شيء إيجابي، فهو يعني عدم نجاح السياسات العسكرية القديمة التي كانت تتبعها إدارته. ولهذا فإن محاولة رص صفوف الحلفاء في القارة الأوروبية ينظر إليها على أساس إيجاد حلول سياسية لم تتمكن الإدارة الحالية من إيجادها بقراراتها الذاتية. ولقد أثبت الأوروبيون أهميتهم للإدارة الأمريكية، فهم أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، وقد نجحوا في وضع سلسلة من الإجراءات التي يمكن أن توجد حلاً دبلوماسياً للأزمة الإيرانية النووية.
وعن طريق الدبلوماسية المتعلقة سيثبت الأوربيون أنهم قادرون على قيادة الساسة الأمريكان إلى عالم أكثر أمناً واستقراراً من السياسات العسكرية الحالية. غير أن اللعبة ليست ذات توجه واحد، فالولايات المتحدة بدورها تريد أن تقود الاتحاد الأوروبي إلى المستنقع الأفغاني، وهي تخطط إلى إعطاء حلف الناتو المسؤولية كاملة لإدارة الحرب الأفغانية بحلول هذا الصيف.
والدول الأوروبية غير متحفزة لاستلام زمام الأمور في ذلك البلد المنكوب. فقد أثبت الأفغان أنهم قادرون على دحر الاحتلال السوفيتي في الثمانينات، وقد يكررون المشهد نفسه مع قوات حلف الناتو في المستقبل. ولا تجد الدول الأوروبية العزيمة أو الدعم الشعبي لتعود للعب دور الدول المستعمرة، كما كانت عليه الأحوال في القرن التاسع عشر.
وهكذا فإن المسؤولية الأخلاقية على الدول الأوروبية هي لجم الاندفاع غير المسؤول للإدارة الحالية، خاصة وأن هذه الإدارة بدأت تدرك حدود القوة العسكرية، لذلك فهي تلجأ للحكمة الأوروبية لحل مشاكلها المستعصية في المشرق العربي، وفي شرق افريقيا.
فهناك الكثير من المتحمسين لمغامرات جديدة في إيران وفي الصومال، وتفعل دول الاتحاد الأوروبي خيراً بالولايات المتحدة، وبدول العالم الثالث إن هي قادت هذا العملاق إلى شيء من التعقّل والحكمة.