في شباك الفلاش باك

صلاح الدين الدكاك

سمي الإنسان إنساناً لأنه يملك ذاكرة لا تنسى، ذاكرة تدون أدق التفاصيل في حياته، سمي الإنسان إنساناً لأنه مهما أوغل في الغد يظل مشدوداً إلى الأمس.. أمس صباه ، أمس فرحه وأمس آلامه وعذاباته.. وعندما يثقل النعاس رأسه يلقيه - لا إرادياً - على وسادة هي عبارة عن حقيبة ذكريات أو هي صندوق الدنيا تدير (( بكرته السحرية )) أمام عينيه شريطاً طويلاً من (( الفلاش باك )) ينتهي آخر مشهد فيه بصرخة ميلاده فاتحة بؤسه وبصمة عذابه الأبدي.
ـ قديماً قرأت: (( سمي الإنسان إنساناً لأنه ينسى )) هكذا بكل يسر وسذاجة قدم صاحب هذه العبارة السامجة والحكمة المعطوبة تعريفه اللامسؤول للإنسان، تعريفاً كان سيوفق فيه لو أسقطه على حجر فالجمادات وحدها من لا يمتلك ذاكرة معقدة كالتي يمتلكها الإنسان.
ـ ليس صحيحاً أننا ننسى..الصواب إن ذكرياتنا التي يلتهم اللون الأسود معظمها ترعبنا فنشيح بوجوهنا بعيداً عنها ونفتعل النسيان ليس صحيحاً أننا نركض باتجاه الغد حباً فيه بل خوفاً من وحش الأمس الراكض خلفنا في محاولة أبدية لافتراسنا، لهذا نحن نركض باستمرار صوب اتجاه إجباري قسري تواضعنا على تسميته «الغد». وهذا الإنسان في ركضه الأبدي نحو الغد وإن حطم رقماً قياسياً مذهلاً واخترق حاجز الصوت في عدوه يظل من غير الإنصاف أن نصنفه في صدارة أسرع العدائين أو نكرمه بطلاً في ألعاب القوى لأنه لا يعدو بإرادته أو طمعاً في المنافسة كالحال عند أبطال العدو، فالذي يركض فراراً من أسد جريح جائع مهما بلغت سرعته ومهارته في العدو لا ينبغي أن يصفق له الجمهور بقدر ما يجب عليهم أن يرثوا لحالته ويشفقوا عليه.
ـ شيء وحيد فقط هو الذي اعتقد أن الإنسان ينساه، شيء وحيد فقط هو «الفرح» ، ومع هذا فإن نسيان الفرح لا يقدح في صحة (( أن الإنسان لا ينسى )) لأنه شذوذ عليها .. والإنسان حين ينسى لحظات الفرح التي مرت به فذلك إما لأنها ليس لها وجود في حياته أصلاً، أو لأنها متناهية في الصغر بحيث تعجز الميكروسكوبات وعدسات الليزر عن التقاطها ..
ـ لهذا حين نقف أمام الكاميرا نحرص على أن نبدو في أحسن أحوالنا ـ نفيسة وهنداماً ـ ثم نتوج كل ذلك بابتسامة بلهاء تغيظ عين عدسة الكاميرا، ولأننا لا نبدو في أحسن أحوالنا إلا نادراً ونادراً جداً فإن معظم صورنا التذكارية نلتقطها في الأعياد ورحلات الاستشفاء إلى الخارج.
ـ وطالما سألت نفسي وأنا أقلب في البومات الصور التذكارية الخاصة بي أو بالآخرين شخصية وعائلية لماذا لا تقف عيني في هذا الكم الهائل من الصور على صورة واحدة لشخص وهو يبكي أو وهو واجم حزين في مأتم أو جنازة، لماذا يبدو الجميع فيها مبتسمين ضاحكين وهم إما في الأعراس الصاخبة أو أعياد الميلاد.. وغير ذلك من مناسبات سامجة. إن الإنسان في أعماقه يدرك أن لحظات الفرح عابرة واستثنائية ومنسية ولن تتكرر غداً، لهذا يجسدها في شكل صور، أما الحزن فهو حالة يومية سائدة وكفيلة بتجسيد نفسها وتجديدها والاستعصاء على معدة النسيان الهشة حين تحاول طحنها وابتلاعها. ـ ختاماً: لا تتهموني بأنني استدعي أحزانكم البعيدة وأنبش ماضيكم الحزين لأن أحزانكم في الواقع ليست بعيدة فأستدعيها أو دفينة فأنبش عنها ولأنكم لم تنسوها أصلاً بل تفتعلون النسيان. حاولت على مدى طويل إثبات «أن الإنسان ينسى لهذا هو إنسان» وتوصلت بعد مشقة إلى إثبات «أن الإنسان يحزن لهذا هو الإنسان»..
* أقول لكم : لا تحزنوا لحزنكم .. إذ ليس من اللائق أن يحزن الإنسان لكونه إنساناً.
Salah_Aldkak@yahoo.com