الأنسنة في الحضارة الغربية لم تأت إلا في الدقائق الأخيرة

الأنسنة في الحضارة الغربية لم تأت إلا في الدقائق الأخيرة

د.جاسم عبد الله الحربش

في الحلقة الثانية والأخيرة، من ردي على مكاشفات صديقي إبراهيم البليهي أتناول ثلاث مسائل هي: مسألة تفوق الحضارة الغربية: إن حضارات بلاد الرافدين في زمنها بإنجازاتها الإبداعية (الزراعة، العمران، الكتابة، القوانين مثل قانون حمورابي)، كانت متفوقة في كل المجالات في زمنها على كل الحضارات المرصودة في زمنها، مثل ما هي الحضارة الغربية متفوقة منذ اختراع الآلة في القرون الثلاثة الأخيرة، وبمثل ما كانت الحضارات الهندية والفارسية والصينية والمصرية والسبئية، متفوقة في أحقابها على التجمعات الحضرية المعاصرة لها في كل العالم القديم. عندما يعمم صديقي إبراهيم البليهي صفة الطغيان على مجمل الحضارات الفرعونية الممتدة عبر عدة ألوف من السنين فإنه يحكم بطريقة جائرة وغير متأنية على حضارة من أزهى الحضارات البشرية بجريرة فرعون واحد من أسرة حاكمة واحدة جرى ذكرها في التوراة، ولم تثبت حتى الآن أي دراسة تاريخية أكاديمية واحدة صحة كل ما قيل في التوراة عن ذلك الفرعون. وكيف ننسى أو نلغي اسم أخناتون وتحتمس وعلماء الفلك والبناء والزراعة وصانعي الورق من الحضارة الفرعونية، ونذكر فرعونا واحدا يزعم اليهود أنه طردهم. أما ذكر الأهرامات كبرهان على الطغيان فإنه لا يصمد لأن للأهرامات ما يقابلها ويماثلها من أعمال القدماء العبثية بمفاهيمنا الحديثة في كل حضارة سابقة، ومنها عملاق رودوس الذي كان يطل على الأراضي اليونانية والرومانية وشواهد ستون هنج في بريطانيا ومعابد أنجكور في كمبوديا وأهرامات أمريكا الوسطى، وغيرها كثير. إنه حتما لا يجوز، بل وغير أخلاقي أن نمجد ما حققته الحضارة الغـربية في الحقبة الحالية من التاريخ البشري، ونتناسى الفظاعات التي ارتكبتها في كل مكان ضد السكان الأصليين، مثل الإبادة والتطهير العرقي، بحجة التمدين وكذلك الحروب الكونية وأفران الإعدام بالغاز وما فعله الصرب والكروات في وسط أوروبا قبل سنوات قليلة ومافعله جورج بوش و ديكتشيني و دونالد رماسفيلد (أي أمريكا) في العراق و أبو غريب وجوانتنامو. أقول إنه من غير الأخلاقي أن نتناسى هذا كله للحضارة الغربية ثم وبنفس النفس نحصي على كل الحضارات التي سبقتها نشوءا و ارتقاء، جرائمها وفظاعاتها وننسى إنجازاتها العلمية المرتبطة بأزمانها. إننا إذا قلنا مثلا إن الدولة العباسية بنيت على جماجم أبناء العم من بني أمية يجب أن لاننسى الجامعات والمستشفيات وقنوات الري ومعابد الأقليات، التي كانت تنتشر في أرجاء الدولة العباسية في تعايش نموذجي لمئات السنين. ثم أننا يجب أن نقول ونؤكد أن مدن الأندلس العربية في أيامها كانت لمئات السنين حواضر للعالم كله ومنارات لعلوم الكيمياء والرياضيات والزراعة والفلك والطب يقصدها الطلاب من جميع الأجناس والأعراق والديانات في تعايش لا مثيل له إلى أن هدمتها الهجمة الغـربية ذات الأصول اليونانية التي ما لبثت أن تحولت إلى البحار لتملأ السفن بالرقيق المصفد بالأغلال وبالثروات والغنائم المنهوبة و جلبها إلى أسبانيا و البرتغال و بلاد الإفرنج.
في مسألة عدم انتماء عظماء الحضارة الإسلامية إليها: إذا زعمنا أن ابن الهيثم وابن النفيس وابن رشد والخوارزمي وابن طفيل و الفارابي و ابن سيناء و غيرهم المئات من أعلام الحضارة الإسلامية العربية (التي هي لغة الحضارة الإسلامية) لاينتمون إلى هذه الحضارة لأنها نبذتهم واضطهدتهم (وهذا ليس صحيحا بمجمله وعلى علاته)، فإننا يجب أن نقول إن سقراط وكوبرنكس وجيوردانو برونو وجاليلو وإيراسموس وغيرهم من أمثالهم لا ينتمون أيضا للحضارة الغربية لأنها نبذتهم بل وأحرقت بعضهم بالنار. لكننا نرى أن الحضارة الغربية تقول إنهم من عظمائها ومن أبنائها البررة. أليس لعظماء حضارتنا الإسلامية العربية مثل هذا الحق يا صديقي إبراهيم؟. على نفس النسج والمنوال نقول إن بختنصر و قورش والفرعون رمسيس وصدام حسين وأمثاله من متجبري العصر الحديث، لهم ما يقابلهم بل مايبزهم إجراما وقسوة في الحضارة الغربية مثل كاليجولا ونيرون وإيفان الرهيب وكورتيز و هتلو و ميسوليني وفرانكو و جورج بوش و تشيني و رامسفيلد ... والقياس الإجرامي يرجح بالتأكيد في كفة الحضارة الغـربية ذات الأصول اليونانية.
في مسألة الإسكندر المقدوني و مسألة الغزو بغرض الاستعمار والتمدين: لم تكن حتى البدايات الأولى لما يسميه الغرب الأصول اليونانية لحضارتهم، (أقصد غزوات الإسكندر المقدوني ذي القرنين)، لم تكن حتى تلك البدايات نبيلة وعقلانية وإنسانية. الإسكندر نفسه كان متهورا لدرجة قتل أصدقائه و معارضيه بقصد إرهاب الباقين، وكان مصابا بالشذوذ وبالطموح الهائل. كان تلميذا لأرسطو ولكن لم يكن متشبعا بقوة الفلسفة بل بفلسفة القوة. لقد أزعجه ما كان يعانيه قومه الإغريق من حروبهم الداخلية الهمجية و تعرضهم المتكرر لغزو الحضارات الشرقية، واستطاع مثله مثل أي مغامر سفاك، في الأزمنة القديمة (قورش، سابور، بختنصر، رمسيس) من تجميع اليونانيين ضد الأغيار بدلا من حشدهم ضد بعضهم البعض، وهذه عبقرية سياسية وليست فلسفية. كانت غزوات الاسكندر بقصد هدم الحضارات الأخرى وسلبها وجلب العلماء والمهندسين والصناع إلى اليونان، لم يكن الإسكندر فيلسوفا بل كان طاغية لا يختلف عن أمثاله من طغاة التاريخ القديم. أما مسألة غزوات الحضارة الغربية بقصد التمدين والأنسنة فهذا ادعاء يشيب لهوله الولدان. إن كل الشواهد الغـربية نفسها من مدونات رسمية وسجلات عسكرية ودراسات أكاديمية موثقة تدل على أن الحضارة الغـربية التي يتعايش معها العالم اليوم لم تأخذ بضرورة إدخال البعد الإنساني في تطورها إلا في الدقائق العشر الأخيرة من عمرها، بعد أن أدرك حكماؤها أنها تسير في درب الهلاك بسبب تركيزها على بلوغ الكمال التقني والعسكري حتى لو أدى ذلك إلى استغلال الجنس البشري نفسه كقرابين علمية وحيوانات تجارب. ليت صديقي إبراهيم يرى متاحف وأقبية مراكز البحث الأنثروبولوجي في كبريات المدن الألمانية والفرنسية والبريطانية والإيطالية والهولندية والأمريكية، لكي يطلع على آلاف الغرف والصناديق التي تحتوي على مئات الألوف من الجثامين لأناس قتلوا في البلدان المستعمرة، ثم أرسلت جماجمهم وأدمغتهم و قلوبهم و أعضاؤهم التناسلية إلى مراكز البحث العلمي لإجراء القياسات عليها بغرض إيجاد البراهين العلمية للتفوق العرقي الأبيض على الأعراق الأخرى، وبالتالي إيجاد المبرر الأخلاقي للإستيلاء والاستعباد والتطهير العرقي. الشواهد لا تزال موجودة على ما فعله الأسبان في أمريكا الوسطى والجنوبية، والبرتغاليون في الموزمبيق، والبريطانيون في الملايو والهند، والهولنديون في أندونيسيا، والفرنسيون في الهند الصينية والجزائر والمغرب وأفريقيا الغربية... ومثل ذلك جرجرة العبيد إلى أمريكا وتسخيرهم في المزارع والمناجم وحرمانهم من ركوب وسائل النقل ودخول المطاعم والتعليم في المدارس، إلى أن قامت حركات العصيان المدني في ستينيات القرن العشرين. وأخيرا علينا أن نتذكر حروب الأفيون التي استعمل فيها تحالف غربي متكامل كل وسائل التدمير بما فيها المخدرات لإحكام السيطرة على الصين والهند الصينية.
الاستنتاج: الحضارات البشرية تعطي وتأخذ من بعضها. الحضارة فعل تراكمي. لكل حضارة ما تفخر به وما تخجل منه. الأنسنة في الحضارة الغربية لم تأت إلا في الدقائق الأخيرة بعد إدراك متأخر لجرائم لا حدود لها ضد الإنسانية. الإنسان الموجود حاليا على الأرض هو محصلة اندماج جيني من أعراق عديدة. لا تفاوت ولا تمايز بين الأعراق والحضارات إلا بمقدار ما تعطيه الحقبة التاريخية من ميزات تراكمية لحضارة ترثها من الحضارات السابقة.
قبل أن أودع القراء وصديقي إبراهيم البليهي، أدعوهم جميعا لقراءة كتب البروفسور إدوارد سعيد (عربي مسيحي عاش في الغرب)، في كتابيه الاستشراق وتغطية الإسلام عن علاقة الغرب بالحضارات الأخرى.