المنطفئون

سلمان بن فهد العودة

حين لقيته أول مرة كان يملأ المجلس حيوية وتوهجا، ويشد الأنظار إليه بنشاطه المتوثب، وروحه المرحة، وحماسه لكل ما يسند إليه، وقد كانت أفكاره رائعة، كان يؤمن بالتجديد والإبداع، ويتحدث عن الفرص العظيمة في الحياة، في ذلك اللقاء أحسست أن شابا يتكون الآن لصناعة مستقبل الإسلام والدعوة، واقتبست من حماسه حماسا، فوجدتني أسترسل في الحديث عن موضوعاته، وأهتم بسؤالاته، وأزمع أن يدوم الوصل بيننا.
حالت بيني وبينه الحوائل، ولم أعد أسمع له حسا، لقد انطفأ !
كثيرون هم كذلك .
يبدؤون مندفعين مشرقين، ثم تعترضهم العقبات، أو
لاتساعدهم الملكات، أو تخور نفوسهم، ليتباطأ مشيهم، ثم يتوقف، ثم يتراجع.
تذكرت كلمة إبراهام لنكولن «أنا أمشي ببطء، ولكن لم يحدث أبدا أنني مشيت خطوة واحدة للوراء» ..
قد تسمع باسم داعية في بلد، أو تقرأ له كتابا، فترى رمزا قادما، ثم يطول انتظارك ولا يجيء، هنا تسأل ما السبب؟!
وقد كتب لي أن أتعرف إلى ثلة من المؤثرين، سواء كانوا علماء في الشريعة، أو كانوا مربين في الميدان، أو أدباء ومثقفين، أو قادة اجتماعيين، ممن ظلوا يقدمون ويبذلون، واستمر حضورهم وتأثيرهم، فبدا لي أن أهم الأسباب وراء إشراقهم الدائم يعود إلى:
أولا: الهمة العالية، والتي هي نوع من الطموح، مصحوبا بالصبر والتطلع والإصرار، أو كما سماه عمر بن عبد العزيز «التوق» ، فكان يقول: إن لي نفسا تواقة، تاقت إلى فاطمة بنت عبد الملك، فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فوليتها، وتاقت إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت إلى الجنة؛ فأرجو أن أدركها إن شاء الله عز وجل.
الهمة جزء من البناء النفسي الفطري تعززها التربية، والقراءة الصحيحة للقدرات والظروف المحيطة، ولبابها التوازن بين المأمول والممكن..
ثانيا: التكيف، أي: القدرة على معايشة الظروف المستعصية، وحماية النفس من الإحباط واليأس، والتعامل مع الطرق المسدودة والفرص الهاربة، والأجواء الخانقة، وعدم الجمود على رؤية ضيقة، أو تجربة محدودة، حين تجد الطريق مغلقا لا تقعد، أبحث عن طرق أخرى، ولا تعود نفسك اتهام الزمان، وسب الدهر، أبحث عن يمينك وشمالك، ستجد أبوابا تقول: «هيت لك» ، فلتكن شجاعا جريئا تقتحم العقبة، وتحاول:
إن الأمور إذا انسدت مسالكها فالصبر يفتح منها كل ما ارتججا
لا تيأسن وإن طالت مطالبة إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمنِ القرع للأبواب أن يلجا
من التكيف أن تتعود النفس على التعامل مع الحر والبرد، والنور والظلام، والكثرة والقلة، بل وحتى النجاح والإخفاق، بحيث لا نعتبر الإخفاق حتما لازما لا مهرب منه، كما قيل:
يصونون أَجسادا قديما نعيمها بخالصة الأردانِ خضر المناكب
ولا يحسبون الخيرلا شر بعده ولا يحسبون الشر ضربة لازب
أظن أن التكيف فرع عن الصبر وليس رديفا له، ولا نقيضا كما قد يظن ..
فالصبر لا يعني الانتظار فحسب، بل يعني البحث عن «حيلة» عن «مخرج» .. ليست الحيلة مذمومة بذاتها، فهي من التحول، ومن السنة أن تقول:«لا حول ولا قوة إلا بالله».
الذم على التلاعب أو المراوغة أو الخداع باسم التفقه، أو باسم السياسة، أو باسم الفكر.
لا ترسم في رأسك صورة تريد تحقيقها بحذافيرها فذلك هو المستحيل.
ثالثا: التجدد، أي: تطوير الذات، فكرا وسلوكا، واقتباس الحكمة من مظانها، أن تقرأ العين، وتصيخ الأذن، ويتأمل العقل، أن يكون المرء «نهما»، ما أجمل النهم إلى المعرفة الجديدة، وفي الأثر «منهومانِ لا يشبعانِ: طالب علم وطالب دنيا» ، رواه الطبراني والبزار والدارمي، وقد جاء مرفوعا ولا يصح.
حتى وأنت في الثمانين لا تستكثر على نفسك أن تحصل على معرفة جديدة في موضوع طالما عالجته، وربما من مصدر ما كنت تظن أنك تظفر بها منه، هذه الروح المتطلعة المتواضعة هي روح المتزود بالوقود الدائم، للفكر والحياة، لئلا تصبح شريطا يكرر نفسه، لتكن كالشمس كل يوم لها أفق جديد، هي هي لم تتحول إلى كوكب آخر، ولكن سنة الخلق تقضي تنقلها بين المشارق والمغارب، كما أقسم بها جل وتعالى.
رابعا: العمر، فمن ينسأ الله له في أثره يبارك فيه إن كان صاحب همة وتجدد وتكيف، فتحنكه التجربة، وتؤدبه الأيام، ويتجاوز شرة الشباب واندفاعه، وتحكمه المواقف، وبهذا يحدث له تراكم في العلم والمعرفة والمحبة عند الصالحين، والسابقة في الخير، وحسن الأحدوثة، ويتجاوز العثرات العابرة، ويحلق فوق الشاتمين والشامتين، خاصة وقد تدارك أقرانه، وأصبح وحيدا، أو كما يقول
(طرفة بن العبد):
إلى أن تحامتني العشيرة كلها وأفردت إفراد البعير المعبد
وإن لم يكن وحيدا، ففي نفر قليل من الأقران، لأن زملاء الأمس أصبحوا ما بين دفين في «الثرى» أو دفين في «الثراء» أو مستخف فتر عن المحاولة، وانطوى على نفسه.
هكذا أيها السالك، يتردد النظر عن البداية المحرقة، والنهاية المشرقة، ويقول السلف: «العبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية»، أولئك الذين يبدؤون وهم يحسون بالكمال سرعان ما ينطفئون .. لأنهم وصلوا قبل أن يبدؤوا الطريق!.