عشت محروما وتمنيت ألا أنسب لأبي.. وانتحار الحارثي رسالة أولى

المتحسسون يبنون تاريخنا على مبدأ «صدق أو لاتصدق».. رائد الآثار د. عبد الرحمن محمد الطيب الأنصاري لـ «عكاظ»:

عشت محروما وتمنيت ألا أنسب لأبي.. وانتحار الحارثي رسالة أولى

حوار : بدر الغانمي

تجربة الأستاذ الدكتور عبدالرحمن الأنصاري لا تكفيها هذه الصفحات.. فالعالم الذي عاش مغامرة التحدي مع الواقع على مدى خمسين عاما وأفنى عمره ينقب عن آثارنا مختصرا بجده وجلده مسافات الانتظار بين ما كان وما يجب أن يكون يحمل في داخله مكنونات وآثارا تحتاج إلى بحث وتنقيب.. التقيته بعد أشهر من المراوحة والانتظار قفز خلالها على مرتدات المرض وتقدم السن فلم أجده فرحا كما توقعت.. وعلى طريقة (إذا ضربت فأوجع) هاجم المتحسسين من عمله ووصفهم بضيق الأفق والتشدد وأنهم لا يفرقون في حكمهم على الأشياء بين نبع ماء وقصر يعبد.. وطالب وزارة التربية والتعليم بالتراجع عن الثوابت الخاطئة والمتوارثة وتغيير المناهج وفقا للحقائق العلمية وفتح الأبواب المغلقة أمام خريجي كلية السياحة والآثار.. ورمى بكل المرارة والشفافية حجرا في الماء الراكد داعيا لمعالجة وضع الأستاذ الجامعي المخلص لكي لا تتكرر حادثة انتحار الدكتور ناصر الحارثي هربا من ديونه وواقعه.. حوار فيه صراع المعلومة وجلد الذات وإشارات لافتة وصراحة تنطلق من مرحلة الطفولة واليتم.
ولدت وسط الأحواش وأزقة المدينة النبوية المنورة، وحملت مثل أقراني الصغار ألواحا أثقل منا وزنا، كتبت عليها آيات من كتاب الله عز وجل، نسير في اتجاه المسجد النبوي الشريف، نمر بحارات وأسواق، ولا نعبر بوابة باب المجيدي ــ وهي رابع بوابة لسور المدينة من الجهة الشمالية ــ إلا ونواجه بجدار الحرم وشبابيك الكتاب مشرعة فنصاب بحالة اكتئاب، ومع ذلك كنا نسارع الخطى لنشرب من حوض محو الألواح القرآنية الذي تخمر طوال الليل فنشعر بأن فيه بركة القرآن الكريم وما يسهل الحفظ، ثم يبدأ التسميع على ثلاثة شيوخ، أحدهم العريف محمد بن سالم شيخ الكتاب والشيخ عبدالحميد المصري والشيخ محمد صقر، عليهم رحمة الله ورضوانه، وكنا نمضي اليوم كاملا حتى صلاة العصر، حيث يرفع الشيخ صوته والحجاج يدخلون لصلاة الظهر، فنفهم من ذلك أن ارفعوا أصواتكم بالقرآن لنلفت نظر الحجاج إلى وجودنا، فيدخلون ويفرقون علينا هللات نفرح بها ونجمعها، أما الشيخ فبعد أن نتغدى ينام نومة القيلولة، ونتناوب على الترويح عليه إلى أن يؤذن للعصر، فيأتي الفرج وننصرف، وكأننا خارجون من سجن.

• لم تكن هناك وسائل للترويح؟
كنا عادة نروح عن أنفسنا عند ما نذهب إلى الحرم لتجفيف الألواح حيث نعرضها للشمس، وهناك نجدها فرصة للعب، ويأتي الأغوات ــ وهم حراس الحرم آنذاك ــ ويجرون خلفنا، محاولة منهم لعقابنا، ولما نسببه من فوضى في مؤخرة المسجد، وعند ما تجف الألواح، نعود إلى الكتاب ونبدأ في كتابة الدرس الجديد فلم يكن أمامنا من مفر، ولكن ما إن نعود إلى البيت، إلا وتطلب مني والدتي رحمها الله، أن «أفسخ» ثوبي لكي تنظفه مما علق به، وهكذا بقية الملابس فنخرج بعدئذ إلى الزقاق، والزقاق لا يعني هنا الحارة، التي يمشي فيها الناس جيئة وذهابا، وإنما تعني ما هو خارج البيت وهذه فرصة أخرى للعب بنين وبنات ألعابا تناسب الجنسين، ولا تختبئ الفتاة إلا عندما تظهر عليها معالم الأنوثة، لذا فإن الشاب يعرف مبكرا كل بنات الحي وما يترتب على ذلك من أشياء مشروعة.
• لكنك ظللت ملولا من الكتاب؟
طابت نفسي مرة منه، فرميت اللوح على ناصية الطريق، وكلما سئلت عن اللوح أقول لا أدري لعله سرق، وفي كل يوم أمر فأراه دون أن يمسه أحد، وفي النهاية أخذته والأمر لله.
• تأثرت باليتم المبكر يا دكتور؟
كثيرا وأثر علي ذلك فأصبحت في منتهى الخجل ولا أستطيع أن أجلس مع الرجال وأتكلم وأسمع منهم، لأنني لم ألحق بوالدي الذي توفي وعمري تسع سنوات ولم يكن لي سند لعدم وجود إخوان لي عدا أخت واحدة، وشعرت بالحرمان والوحدة بعد وفاته رحمه الله، فأصبح البيت الذي كان يضج بطلاب العلم من تلامذته وزواره ساكنا ومخيفا وتفرق الأصحاب ومرت بي في فترة من الفترات لم أحب أن يقال لي: عبد الرحمن ولد الشيخ محمد الطيب، وشكل هذه الصدمة دافعا لي لكي أكون شيئا وأردت أن أكون عبدالرحمن الذي يبني نفسه بنفسه، وكان لوالدتي فضل كبير في ذلك فقد كانت قوية الشخصية وضحت رحمها الله ورفضت الكثير من الخطاب، ولم تتزوج بعد وفاة الوالد، رغم أن عمرها لم يتجاوز الثلاثين عاما آنذاك، وكانت تضربني إذا احتاجت لذلك، وتمنيت لو عاشت مدة طويلة لترى ما أنا عليه الآن، وإن لحقت شيئا مما كانت تتمناه، إذ جاءت وفاتها بعد مرور سنة من تعييني عضوا في مجلس الشورى في دورته الأولى، ولا أنسى أيضا دور زوجتي التي وقفت معي أيضا وقفة كبيرة في المراحل الصعبة من دراستي بعد حصولي على البكالوريوس من القاهرة وصبرت على ترحالي وسفري الدائم الذي يطول إلى شهرين في أحايين كثيرة، ولم تعترض ولم تشتك واهتمت بتربية أولادي والحمد لله ولها علي جميل لا أنساه ما حييت.
• ولماذا دخلت مدرسة العلوم الشرعية مرغما بعد وفاة الوالد؟
كنت في شوق كبير لكي أدخل المدرسة الثانوية، ولكن الوصي علي الشيخ أبو بكر رحمه الله وكان من أخص تلاميذ الوالد بالمدينة أبى ذلك، وقال لي: أنت من بيت علم ديني، ولذلك لا بد أن تدخل المعهد العلمي السعودي فدخلت مرغما عليه، وبرزت ولله الحمد وذهبت إلى مصر، وبقدر ما كنت مغرما بدار العلوم في مصر لما سمعته عنها من بعض الأساتذة الذين علموني بالمعهد العلمي، ورغبت أن أوجه إليها، غير أن مكتب التنسيق في القاهرة، أصر على أن أدخل كلية الآداب مرغما أيضا، وعملت ما استطعت من تأثيرات، حتى أبرق وزير المعارف ــ آنذاك ــ إلى المسؤولين بالمكتب، قائلا لهم في برقيته: حققوا لعبدالرحمن الأنصاري ما يريده.. وأدخلوه دار العلوم، ولكن مكتب التنسيق أصر على أن لا يدخلني دار العلوم.. وأن أدخل كلية الآداب، ودخلت الكلية على مضض، وبعد حصولي على الليسانس عدت معيدا في كلية الآداب بجامعة الملك سعود، متخصصا في النحو العربي.. أو في الأدب العربي، وقال لي الأستاذ الدكتور مصطفى السقا: إذا كنت تريد أن تدرس النحو فلتذهب إلى مصر.. مالك ولبريطانيا؟ فقلت له لا، إنني أريد أن أذهب إلى بلاد الإنجليز، لأرى كيف يدرسون.. وكيف يفكرون؟ فلا تضع علي هذه الفرصة، فقال: إذن اذهب لدراسة الأدب الجاهلي، وذهبت إلى بريطانيا، وذهبت إلى جامعة ليدز، لم تتح لي فرصة الأدب الجاهلي، وإنما درست شيئا قريبا من الفترة الجاهلية، وهي النقوش العربية القديمة، التي كانت ــ ولا زالت ــ موجودة على سفوح الجبال، منتشرة في أنحاء المملكة العربية السعودية، وفي أنحاء الجزيرة العربية وكنت لا أفقه من ذلك شيئا، إلا ما درسته على يد الأستاذ يحيى خليل نامي (رحمه الله رحمة واسعة) فقد كان هو الشخصية الوحيدة من العرب، الذين يتقنون الكتابات العربية القديمة، أو الكتابات الحميرية القديمة، وكان يدرسها على استحياء في مادة فقه اللغة، الذي يدرس في قسم اللغة العربية، وقلت لأستاذي: إنني لا أعرف من هذا شيئا سوى درس أو درسين درستهما في كندا، قال لي: سأدرسك كل شيء، ودرست شيئا من العبرية، وشيئا من الآرامية، وشيئا من السريانية، وشيئا من العربية القديمة، ووفقني الله، واستطعت أن أدرس النقوش اللحيانية، وأن أدرس استمرار هذه النقوش من الألف الثانية قبل الميلاد، حتى الفترة العربية التي هي قبيل الإسلام في هذه الفترة.. ولا أدري لماذا استحوذ هذا الأستاذ علي؟ وقال لي: مادمت درست هذه النقوش فلا بد أن تدرس شيئا عن الآثار، قلت له: إني لا أعرف شيئا عن الآثار إلا ما أراه في المدينة، فقال لي: اذهب إلى كوربرج ــ في شمال بريطانيا ــ وشارك في حفرية أثرية، وذهبت وأنا لا أفقه شيئا في الآثار ــ من حيث التنقيب ــ ومكثت شهرين وأنا أحفر وأحمل الطين، وانتهت الفترة وتعلمت منها الكثير ووصلت بعدها لما وصلت إليه الآن، وهكذا فكل ميسر لما خلق له.
• سفرك لمصر تلك الفترة بعد حياة يتم وفقر كانت أشبه بصدمة حضارية؟
كانت هزة قوية واجهناها، واستطاعت عقولنا ومشاعرنا أن تستوعب هذه النقلة الحضارية، لأننا قرأنا عن مصر في المدينة المنورة ما خفف عنا من تلك الهزة، وعلى الرغم من ذلك لم ننس المدينة المنورة، ولم ننس أخواتنا من بنات المدينة، فقد تجمع أبناء المدينة المنورة في القاهرة، وكونا جمعية ندفع كل شهر جنيها مصريا، وكان الجنيه آنذاك يساوي 12 ريالا سعوديا، وعند ما نعود في الصيف نستأجر منزلا أو نستعين بمدرسة، ونبدأ في تدريس الأبناء المكملين، كما استعنا بزوجات الأساتذة المتعاقدين ليدرسن بنات المدينة، وبدأ تعليم المرأة من هذه الجمعية. وعند ما أنشئت الرئاسة العامة لتعليم البنات في عهد الملك فيصل رحمه الله انضمت المدرسة إلى الرئاسة، ولكن ليس باسم طلاب المدينة المبتعثين، ولكن باسم الأستاذ الأيوبي، إذ كنا قد استعنا به لإدارة المدرسة خلال العام الدراسي.
• عرفت أنك واجهت صعوبة في العيش في بريطانيا أثناء دراستك العليا؟
واجهنا كطلبة عرب شيئا من العنصرية التي اشتهرت بها بريطانيا تجاه الأجانب ذلك الوقت، وماعدا ذلك فعلى الرغم من أن العلاقة كانت مقطوعة مع بريطانيا وفرنسا بعد العدوان الثلاثي على مصر، إلا أن ذلك لم يمنع الحكومة البريطانية من السماح لنا بدخولها، بينما امتنعت فرنسا عن منحنا فيزا سياحية فقط، وهذا هو الفرق بين السياسة البريطانية والسياسة الفرنسية. وقد تعلمنا في دراساتنا في بريطانيا إضافة إلى المنهج العلمي وطرائق البحث معنى المواطنة والإخلاص في العمل والمثابرة وحرية الرأي واحترام الآخر.
• البعض قال إن لقاءكم بالملك فيصل بعد عودتكم من الخارج كان نقطة تحول خاصة في حياة كثير منكم؟
بدون شك.. وأنا أعتبر ذلك اللقاء أهم ما حدث لنا خصوصا أن جلالة الملك فيصل رحمه الله قاد سفينة هذه البلاد في فترة من أخطر الفترات التاريخية التي مرت عليها، وكان لقاء أبويا، دخلنا عرين الأسد، وكل منا يشعر بالفخر والاعتزاز، سلمنا عليه في مكتب صغير بعد صلاة العصر، ثم التفت وتحدث بكلمات كان لها الوقع الحسن في نفس كل واحد منا: أبنائي إن هذا الشعب أمانة في أعناقكم، كالعجينة تشكلونها كما تشاؤون، فإن وجهتموه إلى الخير فهو خير تنعمون به، وإن وجهتموه إلى غير ذلك اصطليتم بناره. ولم يكمل جلالته كلمته حتى نطق أحدنا متسرعا، قائلا: نعاهدكم.. فلم يكمل الجملة، إلا والتفت إليه الملك قائلا: عاهد نفسك، لا تعاهدني. وخرجنا ونحن نشعر بثقل الأمانة التي ألقاها على عاتقنا، ولم نفرط في الأمانة قط، في كل اتجاه نسير فيه.
• ولماذا لم تعد للمدينة المنورة التي عشقت أزقتها وأحواشها؟
لا يمكن للإنسان أن ينقطع عن هذه البقعة المباركة رغم شعوري في كل زيارة لها أنني وعندما أسير في شوارعها أنني فقدت مدينتي التي عشت فيها وتظل سلواي الدائمة التي تعوضني ذلك الحنين عندما أنظر للحرم النبوي بهذه العظمة والجمال والإتقان والعمل غير العادي فأشعر بسعادة تمسح عني كل ذلك.
• خالفت كل الباحثين بنفي مقولة انكسار سد مأرب وهجرة العرب من الجنوب إلى الشمال.. لماذا؟ وما هي دلائك على ذلك؟
أنا لم أخالف أحدا بقدر ما دعوت إلى التفكير في ارتباط السد بهجرة القبائل لأنه لم ينهر مرة واحدة، فآخر من رممه أبرهة الحبشي في القرن السادس الميلادي ومعنى ذلك أن هذا الأمر متأخر، وقد كتب أبرهة نصا رائعا بالكتابة «الجنوبية» ذكر فيه تفاصيل عملية الترميم، وكم خسر فيه من أموال وكم عامل قام بعملية الترميم، إلى أن عاد السد إلى ما كان عليه. ومن ثم فإن موضوع انهيار السد وتسببه في هجرة القبائل ما هو إلا مرحلة من المراحل التي انهار فيها السد ولكنه رمم ورمم كثيرا ومن يذهب إلى سد مأرب يشاهد الترميمات التي تمت في السد وآخرها ترميم أبرهة الذي كان قريب عهد بفترة ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فليس حقيقيا أن انهيار السد تسبب في هجرة القبائل إلى عمان والمدينة ومناطق أخرى وقد يكون له تأثيره لكنه لم يكن السبب الرئيسي.
• حتى في هجرة الأوس والخزرج إلى المدينة المنورة في القرن الرابع الميلادي؟
لم نجد حقيقة في أشعارهم ولا أشعار حسان بن ثابت من الأنصار أنهم هاجروا بسبب ذلك، وكل ما يذكر في شعر الأنصار هو علاقتهم بالغساسنة في الشمال، وهو أمر يذكرونه دائما ويفخرون به وليس هناك أي ذكر لتاريخ هجرتهم من اليمن.
• البعض استغرب أيضا اعتراضك على أن تكون عدنان وقحطان قبيلتين عربيتين واللتين قلت بأنهما صفات للقحط والشبع.. فهل مازلت مصرا على رأيك؟
بدون شك.. فعدنان معنى للتعدين أو التعدن والإنسان المقيم في منطقة هو إنسان متعدن أي مارس استخراج المعادن، وقحطان من القحط، فالمنطقة التي كانوا فيها سواء في الفاو أو غيرها هي منطقة قحط لأنها تقع ضمن جبال السروات فلا يأتيها قطر، وهذا واقع جغرافي معروف.. الشيء الآخر أن العرب كلهم ينسبون إلى إبراهيم عليه السلام وأبو العرب هو إسماعيل إبن إبراهيم فكل العرب في الشمال أو الجنوب خرجوا من سيدنا إبراهيم الذي كان موجودا في سنة 1800 قبل الميلاد وقبل هذه الفترة لم نعرف شيئا اسمه «عرب» لا قحطان ولا عدنان أبدا.. بل حتى كلمة «عرب» جاءت متأخرة بينما هي مجموعة بشرية كانت تنتقل من مكان إلى آخر ومن هذه المجموعة البشرية سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي تزوج هاجر من مصر وجاء بها إلى مكة وبنى البيت بعدئذ هو وابنه إسماعيل وبدأ العرب من أبناء إسماعيل في الظهور بعد ذلك والتناسل.
• ألا يتعارض طرحك هذا مع ما هو معروف من وجود قبيلة جرهم مثلا قبل ذلك وقدومهم لموقع نبع بئر زمزم من خلال استدلالهم برؤية الطيور حول المكان؟
هذه أيضا لا نعرف مدى حقيقتها، وكل ما نعرفه أخبار تتواتر ويروي المؤرخون بعضهم من بعض، ولذلك لا تدري هل جرهم حقيقة أم هي من وضع المؤرخين؟ ثم جاءت خزاعة وهي قبيلة متأخرة جدا لهذه الفترة، فالمستفاد مما سبق أن عدنان وقحطان من نسل إبراهيم عليه السلام، ولذلك فعندما جاءت فكرة العرب العاربة والمستعربة والبائدة والتي ظهرت في القرن الثالث الميلادي فإن الذين أرخوا لهذه الفترة كانوا من جنوب الجزيرة العربية وقد شعروا أن الذين جاؤوا من عرب الشمال هم الذين فازوا بالنبوة وكان منهم الخلفاء والقادة فماذا بقي لعرب الجنوب..؟ ولذلك وضعوا ذلك بمعنى: أنكم يا عرب الشمال مستعربون ولستم عربا وهذا يعني طعنهم حتى في الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فكان لهم هدف سياسي في ذلك الوقت، وينبغي لنا أن نعيد النظر في ما كتب، وأنا أعـتـقـــد أن على وزارة التــربية والتعـــليم أن تعيد الـنـظـر في هذه المعلومات.
• ألم ترفع توصية بذلك من خلال مجلس الشورى عندما كنت عضوا ورئيسا للجنة الشؤون التعليمية والثقافية والإعلامية؟
لم ترفع أية توصيات لأننا اعتدنا أن تكون وزارة المعارف سابقا والتربية والتعليم حاليا استراحة لما عرف، وقد لا يهمهم كثيرا تغيير هذا الاتجاه لأنه عرف بين الناس ولا يريدون أن يثيروا مشاكل بشأنه، مع أنه يجب أن تنظر للأمور بمعيار منهجي وحقيقي لنعطيه للناس ولو مضت عليه ألف سنة.
• هناك من يرى أنكم ارتكبتم خطأ تعريض آثار مدينة الفاو للإهمال بعد أن تركتموها عارية للريح والمطر فيما ظلت محفوظة تحت الرمال لأكثر من 4000 عام؟
نحن وجدناها أيضا مهملة ومتروكة، ولذلك تقوم الهيئة العامة للسياحة ببرنامج ترميم لمدينة الفاو بالتنسيق مع قسم الآثار بجامعة الملك سعود لكي تعود مرة أخرى وتصبح منطقة جذب سياحي في وادي الدواسر، وقربها من نجران سيعطي السائح الفرصة لكي يشاهد القرية ونجران في نفس اليوم، ونحن لا نأخذ الأشياء عبثا دائما فقد أخرجنا كتبا وأبحاثا وفتحت لنا هذه التجربة أبواب فترة تاريخية مهمة جدا.
• لكنكم توقفتم ولم تكملوا العمل؟
لا.. الجامعة توقفت عن الاستمرار في التنقيب وهذا تصرف ممتاز في رأيي، فأنا لن أستمر في قرية الفاو لأنه قد تظهر وسائل تنقيب أفضل مما أعرفه، وبالتالي قد يستفاد منها بشكل أفضل، وأنا أمثل مرحلة تاريخية تعلمت فيها التنقيب وجدت الآن وسائل حديثة جدا ومن الأفضل استعمال هذه الوسائل بدلا من الطريقة القديمة التي كنا عليها.
• ومتى تحل حالة التصادم بينكم وبين المتحسسين دينيا من موضوع الآثار؟
سئلت مرة في التلفزيون عن العلاقة بيننا كآثاريين وبين المتحسسين من عملنا من ناحية دينية فقلت: «كل يعمل على شاكلته» نحن نسير في طريقنا وهم يسيرون في طريقهم والبقاء للأصلح، فالحمد لله أن أصبح قسم الآثار كلية للسياحة والآثار في جامعة الملك سعود وتخدم كثيرا من الطلاب فأصبحوا يبثون أفكار الآثار والمجتمع متنبهين لوجود الآثار وأهمية المحافظة عليها وهذه نتاج الجهود التي بذلناها في سبيل الإبقاء على الآثار، وأصبحت لدينا هيئة عامة للسياحة والآثار وهذا إنجاز.. ولا بد أن تعي عقول الإنسان أهمية الآثار لأننا إذا اجتنبنا كل أثر فسيبقى تاريخنا على مبدأ «صدق أو لا تصدق».. والمشكلة أننا ابتلينا بعدم فهم لحقائق الأشياء وبالتالي فبعض الناس يرى أن الإبقاء على هذه الآثار يفتح الباب لتقديسها، ولكن الآن هناك وعي أفضل وتعاون بين الهيئة العامة للسياحة والجهات المعنية بهذا الموضوع وأصبح للآثار دور كبير جدا في ما يمكن أن يزال وما لا يزال، وقد أعجبني أن كثيرا من المساجد السبعة الموجودة في المدينة لم تضع، وتم بناء مسجد كبير في المنطقة يسمونه مسجد الفتح من أجمل ما هو موجود والمكان الذي بني فيه هو الذي ذهب فيه مسجد أو اثنين، وأصبح المسجد الجديد واجهة حضارية للمنطقة ويصلى فيه الجمعة والعيد ويقدم منفعة للناس، والحجاج مازالوا يزورون المساجد الخمسة الأخرى وليس هناك مشاكل، لكن الشيء الذي آسف عليه هو موقع غزوة أحد الذي أصبح مهملا وبدأ التآكل يظهر على جبل الرماة وأصبح مجرد ممر ومع الزمن سوف يتساقط لأنه من الحجارة الرملية، كما أن الناس ليس لديهم تصور حول موقع المعركة وكيف التف خالد بن الوليد رضي الله عنه، والكثير يظنون أنه التف من وراء جبل أحد ولو كان كذلك لانتهت المعركة ولم يصل جيشه إلا بعد انتهاء المعركة بساعات، وللأسف أن المعالم قد تغيرت فلا تعرف هل التف وراء جبل الرماة نفسه أم وراء ضلع من أضلاع جبل أحد.
• الإهمال نابع من التحسس الديني أيضا؟
لا أدري.. لكنني أتذكر عندما كنا صغارا ونخرج إلى سيدنا حمزة كما كنا نسمي موقع المعركة في المدينة آنذاك، أنه كانت هناك عين متفجرة وكنا نلعب فيها وماؤها حلو جدا ونشرب منه وفيها سمك أيضا، ومن المؤسف أن هذه العين ظهرت مرة أخرى في السنوات الأخيرة بحفر ما وإذا بها تدفن ولم نكن نصدق أن تظهر من جديد.. ولا ندري لماذا طمست مع أنه لا علاقة لها بالناحية الأثرية وإنما هي مسألة طبيعية ولكن يبدو أن هناك نوعا من التحسس الزائد والأمر كذلك لمسجد العريض الذي هدم وكان فيه قبر لأحد أفراد أسرة آل البيت وتم نقل القبر إلى البقيع والسؤال.. لماذا هدم المسجد أيضا؟.
• ربما خوفا من تحوله إلى مزار من قبل بعض الجهلة يا دكتور؟
مزار لماذا.. وسكان المنطقة كانوا يصلون فيه فالناس حرموا من وجود مسجد وما نتخوف من تحوله إلى بدعة نقل وبالتالي فهذه اجتهادات غير مفهومة، مثلها مثل ما قال الشيخ الغامدي رئيس هيئة الأمر بالمعروف في مكة المكرمة قبل فترة من ضرورة هدم كل الآثار الإسلامية مثل غار حراء وغيرها بحجة أنه لا داعي لأن تصبح مدعاة لكذا وكذا.. فقامت عليه أقلام الكتاب فتراجع.
• وهل كان لهذا التحسس دوره في إيقاف البحث عن درب الفيل؟
الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- أراد القيام برحلة لتحديد هذا الطريق لكنه منع من هذا الأمر من باب الحساسية مع أنه طريق من قبل الإسلام ولا صلة له بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لا أدري لماذا منع وخرجت فتوى بعدم جواز هذا الأمر مثلما حصل لطريق الهجرة مع الأستاذين عبدالقدوس الأنصاري وعبدالعزيز الرفاعي رحمهما الله اللذين كانا ينويان تحقيق طريق الهجرة من مكة إلى المدينة فخرجت فتوى بعدم جواز ذلك، وأنا أتساءل: لماذا لا نتبع هذا الطريق تاريخيا فقد يكون أقصر من الطرق الأخرى لمعرفة حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في اختياره الذي أوصله بسرعة إلى المدينة المنورة وفي فترة قياسية واستطاع أن يتوه العارفين بالطرق في مكة المكرمة ولم يصلوا إليه.. أما طريق الفيل فليس بطريق الفيل ولكنه طريق «كرب الأسعد» أحد الملوك الحميريين الذي مهد هذا الطريق ليصل إلى سوق عكاظ والمناطق الأخرى في الشمال وليس للفيل فيه ما يدل، ولو صعد الفيل جبال عسير فليست بعملية سهلة ولم يقل الناس إنه طريق الفيل إلا في السنوات الأخيرة وإلا فقد كان معروفا بطريق «كرب أسعد».
• ولكنه أهمل أيضا؟
نحن لدينا كتاب عن منطقة الباحة وعسير وفيه صور لهذا الطريق.
• وما الذي يمكن أن تقدمه كلية السياحة والآثار للمجتمع؟
المشكلة الآن هي: أين يتوظف خريجو هذه الكليات؟ فليس لدينا الآن جهة تقبلهم سوى الهيئة العامة للسياحة ومهما استوعبت من أعداد فلن تلبي حاجة جميع الخريجين ولكن قد تستوعبهم الفنادق أيضا.
• ولماذا لم يستوعبوا في وزارة التربية والتعليم كمعلمي تاريخ مثلا..؟
مما يؤسف له أن الوزارة لا تعتبر خريج كلية الآثار قادرا على تدريس التاريخ مع أن طالب الآثار يدرس الموضوعات التاريخية أكثر بما له علاقة بالمملكة، ومع ذلك فالوزارة لا تعينهم وتستعين بالجغرافي ليدرس التاريخ أما الآثاري فلا، وهذا من العجب العجاب لأن الآثاري يأخذ فرشة تاريخية متميزة لكي يكون آثاريا، وهو أكثر معرفة ولديه قدرة على إفهام الطالب بصور وزيارات ميدانية أكثر من الجغرافي، فنرجو أن تعي الوزارة هذا الجانب في الوقت الحاضر وتستعين بخريجي الآثار في تدريس مادة التاريخ وأتصور أنهم سيكونون أفضل حتى من خريجي أقسام التاريخ.
• بعض أساتذتهم سبقوهم في الضياع يا دكتور وأنت تعلم ذلك؟
هذه من الأمور المؤسفة التي حصلت والإنجليز لديهم مبدأ في العلم يقول لك «.follow the line» حتى تصل وتصبح دكتورا وما هذه إلا بداية الطريق العلمي، وللأسف أن الكثير من حملة الدكتوراه السعوديين يرى فيها نهاية السلم ولهذا ضاع كثير منهم واكتفوا بالبشت والكرسي وتركوا التفرغ العلمي دون رجعة.
• ربما لشعورهم بعدم التقدير الذي سبق لك أن أشرت إليه عندما قلت إن العرب اعتادوا أن يكرموا الإنسان بعد وفاته دائما؟
أعتقد جازما أن حادثة انتحار زميلنا الدكتور ناصر الحارثي رحمه الله خير مثال على التقدير الذي يجده أستاذ الجامعة المتفرغ للعلم، فالرجل أخلص لعمله وجلس في صومعته متفرغا للبحث والتأليف واستطاع أن يخرج لنا أكثر من أربعين كتابا ولم يعط قدره، وبالتالي لم يجد أمامه إلا أن ينتحر بعد أن حاصرته الديون، فأستاذ الجامعة بحاجة إلى تعضيد من الدولة وهناك من أمثال الدكتور الحارثي كثر لا يملكون بيوتا للسكن وحالتهم بئيسة وما حدث رسالة أولى للمسؤولين للالتفات إلى هذا الأمر، وأتمنى أن لا نفجع بحادثة أخرى مماثلة.
• نجحتم في رفض تغيير مسمى كلية الآداب في جامعة الملك سعود فهل مازال التوجه قائما للتغيير بعد رحيلكم؟
نعم.. كانت هناك محاولة سابقا لتغيير اسم الكلية فكافحت مجموعتنا ضد هذا التغيير لأن الآداب هي مجموعة الثقافات العربية بما فيها من التاريخ وآثار وشعر وأدب فإذا ألغيت الآداب أصبحت كلية للعلوم الإنسانية كما حدث في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة، أما في الرياض فما زالت الكلية على نفس الاسم ونحن نرفض تغيير هذا الاسم الكلاسيكي القديم.
• تظل أبواب الإغراءات المالية في مجال الآثار مفتوحة على مصراعيها.. فهل واجهتم شيئا من ذلك؟
كثير من الناس يعتقدون أن منزلي مليء بالآثار، بينما هو على عكس ذلك، وليس به قطعة أثرية واحدة والسبب هو أنني لست بائعا للآثار، وإنما منقب عنها والدولة وضعت ثقتها في شخصي المتواضع لتكون لها الآثار ولي نتاج عملي وسمعتي وتأليفي.. وهناك خط أحمر يفصل بين المنقب وتاجر الآثار ولا يمكن لكليهما أن يجتمعان في شخص واحد لأن هذا يسقط مصداقيته نهائيا.
• أتيحت لك الفرصة للتنقيب في المسجد الأقصى قبل خمسين عاما من الآن وتلمست عن قرب جناية الغربيين وتجاهلهم للحقائق التاريخية الموجودة.. فلماذا لم تنشرها؟
المشكلة أنني ذهبت طالبا في بعثة حفرية، والحقيقــــة التي وجدتها بعد الــتـنـقـيبات الأثرية التي اشتركت فيـــها مع البروفيـســـور البريطانية «كاثرين كيينون» أشهر المنقبين الآثاريين في العالم أنه لا يوجد أي أثر لليهود في فلسطين، وفي رحلتي معها التي استمرت لمدة شهرين لم تجد هي أيضا شيئا يدل على وجود أي أثر لليهود وكانت تؤيد هذه المسألة وتعلنها لكن اليهود لم يسكتوا على ذلك فحاربوها وحاربوا أيضا منقبا أمريكيا اسمه «بول لاب» وكان أيضا على قناعة بوجهة نظر البروفسور كينيون، بل وقتل بسبب ذلك، فالعمل الذي يقوم به اليهود الآن هو إصرار على عمل غير موجود.
• بمعنى أنهم لن يصلوا إلى أي إثبات لهيكلهم المزعوم؟
ولو أرسلوا لمراكز البحث العلمي التي تحلل «الكربون 14» لمعرفة نسبة الإشعاع في الخشب والجلد أو أي شيء بحيث يعرف من خلال الأقدمية الفترة التاريخية منذ بدايتها والمتبقي منها فلن يجدوا شيئا، واليهود ينكرون حقائق تاريخية عندما دخلوا إلى فلسطين بعد أربعين عاما من التيه وجاؤوا كجيل جديد بينما المجموعة التي كانت مع سيدنا موسى عليه السلام قالت له: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون» لأنهم خارجون من الذل الذي عاشوه في مصر، فالله سبحانه وتعالى أراد بهذا التيه أن يخرج جيلا جديدا فعاشوا في الصحراء بدائيين، وعادة البادية تغلب الحاضرة فذهبوا بدوا إلى فلسطين بعد وفاة سيدنا موسى ودخلوا مع من جاء بعده من الأنبياء، وهؤلاء البدو لم يعرفوا كيف يبنوا معبدا فاستعانوا باللبنانيين الكنعانيين الذين بنوا معبدا لليهود فليس لهم فضـــل في بنـــاء المعبد، ويمكن أن يكون المعبد بني على الطريقـــة الوثــنـيـة التي كان عليها الكنعانيون، وعلينا أن نفكر في هذه المســــألة دائما لأن اليهود يضـغـطـون دائمـــا على أنهم كانوا هنا ولكنهــم بدائيون، فلـــذلك قتــلوا الأنــبـيــاء واخــتــرعـــوا أشــــيـــاء كثيــرة ودارت بينهم صراعات ولا يقاتلون إلا من وراء جدر ولذلك بنوا الجدار الفاصل فدعواهم في القدس فاسدة وباطلة.