الصواريخ الكورية حالة استقطاب ثالثة بعد نووي ايران والغزو الأمريكي العراقي

الصواريخ الكورية.. مخاض الحرب الباردة الجديدة (الحلقة الاولى)

اعداد: فتحي عطوة ( القاهرة)

فجرت تجارب كوريا الشمالية اطلاق صواريخ طويلة المدى قادرة على الوصول إلى أراض أمريكية، أزمة عالمية جديدة حيث أدانها البعض وانتقدها البعض الآخر وتحفظ عليها آخرون واعتبرتها واشنطن استفزازا واليابان وصفتها بمشكلة خطيرة على السلام، مقابل دعوة صينية روسية للحوار، بما يظهر حالة الاستقطاب الدولي حول المسألة الكورية بين مؤيد ومتحفظ ومعارض للموقف الأمريكي من كوريا الشمالية . وتأتي الأزمة الكورية لتكرر نفس السيناريو من الاستقطاب الدولي حول الأزمة الأمريكية الإيرانية بشأن برنامج إيران النووي، كما تكرر نفس حالة الاستقطاب التي حدثت خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ولتثير تساؤل ملح هو : هل عادت الحرب الباردة من جديد على المسرح الدولي خلال الأعوام القليلة الأخيرة ؟ وإذا كانت قد بدأت بالفعل فبين من هذه الحرب الباردة وما هي مظاهرها، و أدواتها ؟
تزامنت الأزمة الكورية مع أزمة أخرى يمكن أن نسميها أزمة صامتة بين موسكو من جهة وواشنطن وأوروبا من جهة أخرى، وهي أزمة قطع روسيا لإمدادات الغاز عن أوكرانيا التي تفاعلت على مدار الشهور الماضية واعتبرتها صحيفة «التايمز» البريطانية يوم 4/1/2006 «السلاح السياسي» لموسكو في إطار «الحرب الباردة الجديدة», وهنا السؤال الذي يفرض نفسه من جديد : هل بدأت الحرب الباردة الجديدة حقا ؟ البعض يؤكد دخول العلاقات الروسية الأمريكية مرحلة الحرب الباردة ويؤكد لجوء أميركا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق إلى الوسائل المتعددة لتوسيع منطقة نفوذها و تأثيراتها على جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق المحيطة بروسيا في الوقت الذي دفعت روسيا فيه إلى التوجه باتجاه التغير الذي تصبو إليه. وليس ذلك فحسب بل ذهبت أميركا أيضا إلى حد أن تؤيد قوى المعارضة الموالية للغرب في دول الكومنولث التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي لفرض الضغوط السياسية على روسيا عبر «الثورات القومية» وعلاوة على ذلك انتهز حلف شمال الأطلنطي بزعامة أميركا الفرصة للتوسع إلى الشرق ليقترب نفوذه من روسيا خطوة فخطوة .
وفي مقابل هذا الرأي يرى البعض الآخر أن المصالح بين أميركا وروسيا تداخلت بعمق في كثير من المجالات على خلفية عولمة الاقتصاد و كلا الجانبين في حاجة إلى التعاون في المسائل المتعلقة بالاقتصاد والتجارة والشؤون المصرفية والطاقة. ولا يمكن لأميركا أن تعيد تنظيم تحالف يسد طريق روسيا بينما لا تتوافر لدى روسيا القوة في المجابهة الشاملة لأميركا والدول الغربية . ولذا لا يزال يبقى مزيد من الاحتكاك خلال عملية التشاور ومزيد من التنافس خلال عملية التعاون رغم ظهور النزاع الشديد حتى اختبار القوة بينهما .
ويضيف هذا الرأي أنه ظل انتهاء أو تلاشي التناقض الجذري والمواجهة بين روسيا والولايات المتحدة من جهة، وفي ظل محاولة الاستيعاب الغربية لروسيا ولدول أوروبا الشرقية السابقة في المنظومة الغربية الأوسع بدءا من الاتحاد الأوروبي وحتى حلف شمال الأطلنطي وعدم ممانعة روسيا في ذلك من حيث المبدأ، حتى وان كان لديها شروط معينة، فإنه يمكن القول إن الخلافات بين موسكو وواشنطن، سواء حول البرنامج النووي الإيراني، أو حول قضايا الشرق الأوسط الأخرى، أو بالنسبة لتوسع حلف الأطلنطي شرقا، وبالنسبة للأوضاع في أمريكا اللاتينية، والتحالف الثلاثي - روسيا والصين والهند - والذي كسرته واشنطن بسرعة خلال زيارة بوش الأخيرة لنيودلهي، حتى ان ارتفعت نبرة تلك الخلافات إلا أن ما يتم في إطارها ليس حربا باردة، بالمفهوم السابق، ولكنه استخدام لبعض أدوات الحرب الباردة في إطار خلافات وليس في إطار مواجهة .
على أية حال ودون تحيز لرأي على آخر نحاول تلمس التطورات الأخيرة، وما إذا كانت تمثل عودة للحرب الباردة ؟ على أن ذلك يستدعي تعريف الحرب الباردة وسماتها حتى تسهل المقارنة.
ماهي الحرب الباردة ؟
استخدم مصطلح الحرب لوصف الحقبة الممتدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى تفكك الاتحاد السوفييتي السابق في عام 1991، واتسمت العلاقات الدولية خلال تلك الفترة بالاستقطاب الحاد بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، وكل منهما له توابعه في نطاق حلف الأطلنطي وحلف وارسو، إلى جانب الأتباع الآخرين المرتبطين بكل منهما بشكل أو بآخر، ونظرا لامتلاك القوتين العظميين للأسلحة النووية كان من غير الممكن نشوب حرب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بالنظر إلى خطر الصراع المسلح بينهما، ولذلك تمت ممارسة الحرب والمواجهة بينما بوسائل غير عسكرية في الإطار الثنائي - الأمريكي الروسي - وتم ذلك بالوكالة في الدوائر الإقليمية الأبعد، وكان الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا ضمن تلك الدوائر. واتبعت وسائل متعددة لنقل الصراع إلى المستويات الإقليمية:
- استقطاب الدول الإقليمية - السماح باستخدام القوات المسلحة في الصراعات الإقليمية، فليس معنى القتال على المستوى الإقليمي عدم استقرار على المستوى العالمي، وهنا تشترك الدول الإقليمية في القتال بطريقة مباشرة، وتشترك القوى العظمى بطريقة غير مباشرة من وراء ستار، أي أن الحروب الإقليمية أصبحت حروبا إقليمية عالمية أو حروبا بالوكالة.
- نقل السلاح والتكنولوجيا من الدول المركزية إلى الدول الهامشية الذي سمي بسباق التسلح.
- إدارة الأزمات وليس حلها حتى لو أدى ذلك إلى تكاثر النقط الساخنة وانتشار أقواس الأزمات كما حدث في الشرق الأوسط.
وعلى ذلك فإن الحرب الباردة تعني المواجهة عبر الوسائل الاقتصادية، والتكنولوجية، والإعلامية، والنفسية وكل الوسائل باستثناء الوسائل العسكرية.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي بدأت مرحلة جديدة مع تسعينات القرن العشرين، تقوم على سيطرة القطب الواحد على النظام الدولي وذلك في ظل الفجوة الضخمة في حجم ومستوى القوة بين الولايات المتحدة والقوى الأخرى الأكبر على المستوى الدولي. ولم يقتصر الأمر على فجوة القوة التي ظهرت وتتكرس بشكل واضح وملموس على أكثر من صعيد، بل انه قد صاحبها تحول واسع النطاق على صعيد المواجهة أو التناقض الجذري الذي كان قائما، ويرى الأستاذ أمين هويدي أن معركة «عاصفة الصحراء» التي خاضتها «قوات التحالف» ضد نظام صدام حسين إثر استيلائه على الكويت هي التي حددت ملامح هذا النظام العالمي الجديد بطريقة أكثر وضوحا.
وعلى عكس فترة الحرب الباردة اتسمت مرحلة ما بعد الحرب الباردة بما سمي بازدهار القوة الأميركية المفرطة -على حد وصف الفرنسيين- حيث فرضت فيه واشنطن هيمنتها على العالم بأسره اقتصادياً واستراتيجياً، بينما تشكلت سماته الرئيسية بالتوسع الهائل للأسواق الحرة والانتخاب الحر للحكومات.
ويرى توماس فريدمان أن عالم ما بعد الحرب الباردة تطور من نظام الانفراد الأمريكي بقمة النظام العالمي إلى عالم متعدد الأقطاب والقوى الدولية, تخضع فيه القوة الأميركية للرقابة والمراجعة المستمرة من مختلف أركان العالم وأنحائه. وفي هذا العالم الجديد تبرز الصين كقوة دولية كبيرة ذات شأن ووزن, بفضل كدحها في العمل وارتفاع مدخراتها. وفيما وراء الصين بدأت تبرز قوى جديدة بفعل ارتفاع أسعار النفط العالمي, وهي القوى التي كانت تمر بمرحلة أفول في عالم ما بعد الحرب الباردة. ومن بين هذه القوى الجديدة, روسيا بوتين التي تناطح الولايات المتحدة وتنازلها في عدة جبهات. وهناك فنزويلا شافيز التي بدأت تلعب في عالم ما بعد بعد الحرب الباردة, دور كوبا فيديل كاسترو في ثياب جديدة, وذلك من خلال قيادتها لموجة جديدة من تأميم الشركات والمؤسسات, علاوة على نشرها لنزعة معادية لأميركا في منطقة أميركا اللاتينية. وبالطبع هناك إيران التي بدأت بإبراز عضلاتها النفطية وتحدي العالم على طريق تحولها النووي.
يقول ستيفن وولت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة شيكاغو الأمريكية، في دراسته الموسومة : « العلاقات الدولية: عالم واحد، نظريات متعددة » : « أن فترة الحرب الباردة اتسمت بسيطرة النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، وتفترض الواقعية أن الشؤون الدولية عبارة عن صراع من أجل القوة بين دول تسعى لتعزيز مصالحها بشكل منفرد، وأن الدول مثلها مثل البشر تمتلك رغبة فطرية في السيطرة على الآخرين، وهو ما يقودها نحو التصادم والحروب .
وبنهاية الحرب الباردة تحولت الواقعية إلى تبني نظرية أكثر تفاؤلية هي نظرية اللـيبرالـية، التي ترى إحدى اتجاهاتها أن الاعتماد المتبادل في الجانب الاقتصادي سوف يثني الدول عن استخدام القوة ضد بعضها البعض، لأن الحرب تهدد حالة الرفاه لكلا الطرفين، كما أن المؤسسات الدولية مثل وكالة الطاقة الذرية وصندوق النقد الدولي، يمكن أن تساعد للتغلب على النزعة الأنانية للدول عن طريق تشجيعها على ترك المصالح الآنية لصالح فوائد أكبر للتعاون الدائم.