ثم استقم
الاثنين / 04 / محرم / 1431 هـ الاثنين 21 ديسمبر 2009 22:37
بجاد بن زياد الروقي
صحابي جليل أسلم حديثا اسمه أبو عمرو سفيان بن عبدالله الثقفي ــ رضي الله عنه ــ أتى إلى الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ بعد أن أسلم وأصبح حرا طليقا لا تحبسه قيود الشرك، ولا تقيده عادات الجاهلية، جاء وقد اطمأن قلبه بالإيمان وتزود بوقود الإسلام يريد أن يعرف وجهته في هذه الحياة وهدفه الذي يسعى إليه فهو يمتلئ طاقة يود أن يعرف إلى أين يوجهها وفيما يفرغها فقال: «يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا، لا أسأل عنه أحدا غيرك»،
فأجابه الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ وهو الذي أعطي جوامع الكلم وتبوأ قمة البلاغة ـ بالمختصر المفيد؛ لأن من يتحدث إليه عربي تغنيه الإشارة عن العبارة، ويفهم أن العهد ميثاق ولكل التزام واجب ولكل قول فعل، فقال له الرسول ــ صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله، ثم استقم).
لقد أفصح له ــ صلى الله عليه وسلم ــ في كلمة عن معان كثيرة يفقهها الذكي الفطن، وقال له بإيجاز ما يغنيه عن شروح مطولة، إذ وكله إلى إيمانه الذي يكفل له كل شيء من لذة ومحبة، وتوكل على الله، واتباع لسنة نبيه، وصدق في نفسه ومع غيره، وسعادة وأمن في نفسه ولمن حوله، وسلامة تحفه وتعم مجتمعه، وأمانة تجعل كل ما يصدر عنه حقا وعدلا، ثم إذا كان هذا فعل الأيمان فليمض مستقيما محفوظا آمنا لا خوف منه ولا عليه، وهذا ما توافر للجيل الأول الذي نزهو بأعماله ونفخر بإنجازاته ونتفيأ ظلال نجاحاته، وها هي نماذج مضيئة نتخذها سراجا وهاجا: لما فتح الصحابة المدائن في عهد عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ أخذوا تيجان كسرى المرصعة بالجواهر، وبسطه المنسوجة بالذهب واللآلئ المختلفة الألوان، والأساور الموشاة والتماثيل والنقوش التي جمعوها من ممالك كسرى، والدرر والأواني المليئة بالذهب والفضة، ولما قسم سعد الغنائم حصل الفارس على أثني عشر ألفا، وبعث بعض الصحابة بأربعة أخماسها إلى عمر بن الخطاب فلما نظر إليها قال: إن قوما أدوا هذا لأمناء، فقال علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه: إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعوا، فليس لمن ولي الإدارات أو الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، وإنما هم أمناء عليها ووكلاء يؤدونها بأمانة فليسوا ملاكا ولا مقسمي أرزاق وإنما المقسم الرزاق الله، كما قال رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم: «إني والله لا أعطي ولا أمنع أحدا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت».
تلك هي الأمانة التي أؤتمن عليها الإنسان، وأودعت فيه بالفطرة، فالناس متفاوتون في الوفاء بها، وفيهم موفون بما ائتمنوا عليه حتى إذا اختلت الموازين وضيعت الأخلاق انقرضت الأمانة، فيكون انقراضها علامة على اختلاف الفطرة، عندئذ تحين ساعة الدمار، كما في الحديث: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ــ صلى الله عليه وسلم قال: ويل للأمراء ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا، يتذبذبون بين السماء والأرض، ولم يكونوا عملوا على شيء».
ولقد كان الرسول يدعو ويقول «اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة، فإنها بئست البطانة».
وما كانت لتكون الأمانة وتحل في المرء الخيانة لولا الاستقامة التي هي دفق الإيمان الذي تتشربه النفس الزكية وتحرمه النفس الأمارة بالسوء: «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولك فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم».
ولقد تجد فينا من لا يعمل ومع هذا يغتصب عمل غيره وينسبه لنفسه ويعمل على أن يمدح بما لم يفعل: «لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم»، وثابت بن قيس قال: «يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال: لم؟ قال: نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد. ونهانا عن الخيلاء، وأجدني أحب الجمال. ونهانا أن نرفع صوتنا فوق صوتك، وأنا رجل جهير الصوت. فقال: يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا وتدخل الجنة. فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب»، حينما يتورع المسلم عن الخداع.
كما ابتلينا بمدائح ومسميات وألقاب وصفات جعلت من بعضنا معصومين وغير قابلين للنقد، وقد لا تنطبق تلك الألقاب على من يتلبسها يلقيها عليهم ــ وشفاههم تقطر كذبا ورياء ــ طالبو المنفعة وجائعو البطون، وقد ذكرهم من قديم الشاعر الظريف الذي يقول:
مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
وعرف عن من سطروا صفحاتهم بالنور حبهم للعمل وبعدهم عن الركون للدعة حتى لو كان أمرا حسنا، فهذا عبدالله بن المبارك يعتب على أخيه الفضيل ابن عياض وهو يتعبد في الحرمين ويترك الجهاد فيقول له:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب
وهو ما نغبط عليه أبطالنا في الجنوب الذين يذودون عن الحمى عدوان البغاة، فهنيئا لمن تهيأ له الإيمان وحقق بأفعاله الأمان.
bejadruqi@hotmail.com
فأجابه الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ وهو الذي أعطي جوامع الكلم وتبوأ قمة البلاغة ـ بالمختصر المفيد؛ لأن من يتحدث إليه عربي تغنيه الإشارة عن العبارة، ويفهم أن العهد ميثاق ولكل التزام واجب ولكل قول فعل، فقال له الرسول ــ صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله، ثم استقم).
لقد أفصح له ــ صلى الله عليه وسلم ــ في كلمة عن معان كثيرة يفقهها الذكي الفطن، وقال له بإيجاز ما يغنيه عن شروح مطولة، إذ وكله إلى إيمانه الذي يكفل له كل شيء من لذة ومحبة، وتوكل على الله، واتباع لسنة نبيه، وصدق في نفسه ومع غيره، وسعادة وأمن في نفسه ولمن حوله، وسلامة تحفه وتعم مجتمعه، وأمانة تجعل كل ما يصدر عنه حقا وعدلا، ثم إذا كان هذا فعل الأيمان فليمض مستقيما محفوظا آمنا لا خوف منه ولا عليه، وهذا ما توافر للجيل الأول الذي نزهو بأعماله ونفخر بإنجازاته ونتفيأ ظلال نجاحاته، وها هي نماذج مضيئة نتخذها سراجا وهاجا: لما فتح الصحابة المدائن في عهد عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ أخذوا تيجان كسرى المرصعة بالجواهر، وبسطه المنسوجة بالذهب واللآلئ المختلفة الألوان، والأساور الموشاة والتماثيل والنقوش التي جمعوها من ممالك كسرى، والدرر والأواني المليئة بالذهب والفضة، ولما قسم سعد الغنائم حصل الفارس على أثني عشر ألفا، وبعث بعض الصحابة بأربعة أخماسها إلى عمر بن الخطاب فلما نظر إليها قال: إن قوما أدوا هذا لأمناء، فقال علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه: إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعوا، فليس لمن ولي الإدارات أو الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، وإنما هم أمناء عليها ووكلاء يؤدونها بأمانة فليسوا ملاكا ولا مقسمي أرزاق وإنما المقسم الرزاق الله، كما قال رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم: «إني والله لا أعطي ولا أمنع أحدا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت».
تلك هي الأمانة التي أؤتمن عليها الإنسان، وأودعت فيه بالفطرة، فالناس متفاوتون في الوفاء بها، وفيهم موفون بما ائتمنوا عليه حتى إذا اختلت الموازين وضيعت الأخلاق انقرضت الأمانة، فيكون انقراضها علامة على اختلاف الفطرة، عندئذ تحين ساعة الدمار، كما في الحديث: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ــ صلى الله عليه وسلم قال: ويل للأمراء ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا، يتذبذبون بين السماء والأرض، ولم يكونوا عملوا على شيء».
ولقد كان الرسول يدعو ويقول «اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة، فإنها بئست البطانة».
وما كانت لتكون الأمانة وتحل في المرء الخيانة لولا الاستقامة التي هي دفق الإيمان الذي تتشربه النفس الزكية وتحرمه النفس الأمارة بالسوء: «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولك فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم».
ولقد تجد فينا من لا يعمل ومع هذا يغتصب عمل غيره وينسبه لنفسه ويعمل على أن يمدح بما لم يفعل: «لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم»، وثابت بن قيس قال: «يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال: لم؟ قال: نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد. ونهانا عن الخيلاء، وأجدني أحب الجمال. ونهانا أن نرفع صوتنا فوق صوتك، وأنا رجل جهير الصوت. فقال: يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا وتدخل الجنة. فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب»، حينما يتورع المسلم عن الخداع.
كما ابتلينا بمدائح ومسميات وألقاب وصفات جعلت من بعضنا معصومين وغير قابلين للنقد، وقد لا تنطبق تلك الألقاب على من يتلبسها يلقيها عليهم ــ وشفاههم تقطر كذبا ورياء ــ طالبو المنفعة وجائعو البطون، وقد ذكرهم من قديم الشاعر الظريف الذي يقول:
مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
وعرف عن من سطروا صفحاتهم بالنور حبهم للعمل وبعدهم عن الركون للدعة حتى لو كان أمرا حسنا، فهذا عبدالله بن المبارك يعتب على أخيه الفضيل ابن عياض وهو يتعبد في الحرمين ويترك الجهاد فيقول له:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب
وهو ما نغبط عليه أبطالنا في الجنوب الذين يذودون عن الحمى عدوان البغاة، فهنيئا لمن تهيأ له الإيمان وحقق بأفعاله الأمان.
bejadruqi@hotmail.com