ابن الفجاءة
الجمعة / 15 / محرم / 1431 هـ الجمعة 01 يناير 2010 22:15
سلمان بن فهد العودة
ليس لي كبير فضل في حفظ قصيدة «قطري بن الفجاءة» الخارجي الذي يقول :
أقول لها، وقد طارت شعاعا
من الأبطال: ويحك لا تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم
على الأجلِ الذي لك لن تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا
فما نيل الخلود بمستطاع
ولاثوب البقاء بثوب عز
فيطوى عن أخي الخنع اليراع
سبيل الموت غاية كل حي
فداعيه لأهلِ الأرض داعي
ومن لا يعتبط يسأم ويهرم
وتسلمه المنون إلى انقطاع
وما للمرء خير في حياة
إذا ما عد من سقط المتاع
لأنها كانت جزءا من مقرر النصوص الذي يلزم الطلاب بحفظه.
ولا أدري كيف خطر لي هذا الاسم، وما سبب تسميته بذلك؛ إلا أن ابن حزم، ذكر في (جمهرة أنساب العرب): أن الفجاءة لقب لأبيه؛ لأنه غاب إلى اليمن، ثم أتى قومه فجاءة.
لكنني وجدت كثيرين يصلح أن يوسموا بهذا الاسم !
كان النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ يستعيذ بالله من «فجاءة النقمة» ويقول : «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحولِ عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك» رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
وقال بعض الشراح : «هي فجاءة النعمة».
وما أرى هذا ببعيد.
فالناس يستغربون من الإنسان الذي ينتقل فجأة من الفقر إلى الغنى، ومن الضعف إلى القوة، إذا استطاع أن يحافظ على اتزانه وتواضعه وعلاقاته وشخصيته دون أن يداخله إعجاب أو كبر أو تغير على من حوله، حتى زوجته وولده وخاصة أصدقائه وقرابته.
إذ إن من جاري العادة أن من تدرج من الثروة أو الشهرة أو المنصب أو الجاه، وعانى في سبيل الوصول إلى ما يصبو إليه، يسلم غالبا من غوائل هذه المقامات؛ لأنه يقدر ثمن الجهد المبذول، ولأن النفس تنقلت بصبر وأناة وتسلسل طبعي، ولأنه يدري أن دوام الحال من المحال، فيتوقع أن يفقد ما وجد، ويعود إلى ما كان عليه، فيحافظ على مكاسبه القديمة وعلاقاته وصداقاته، وتبقى شخصيته كما عرفه الناس ببساطته وعفويته، وأنه لا يستمد قوته من وضعه الطارئ القابل للتحول والزوال، بل من نفسيته الجميلة وخصاله النبيلة ومروءته وأخلاقه، وهي باقية مع اختلاف الأحوال، وهذا يصدق عليه قول المتنبي:
وحالات الزمانِ عليك شتى
وحالك واحد في كل حالِ
فإذا فوجئ الإنسان بالمال؛ لم يحسن التوازن في التعامل مع وضعه الجديد؛ فيسرع إليه الطغيان والكبر، ويتنكر لمن حوله، ويتغير عليهم، ولا غرابة؛ لأنه لم يتعرض للمحاولة والفشل والتدريب ولم يقاس الصعاب، ولم تعركه تجارب الحياة.
ومن الحكمة أن يكون ثم تدرج وتسلسل في ترقي الإنسان في أي مقام، حتى مقامات العلم والقيادة والدعوة والإمامة للحفاظ على نفسية الإنسان من الصدمة التي قد لا يحسن التعامل معها.
لقد كان سيد ولد آدم عليه السلام (يخصف نعله، ويخيط ثوبه) كما روت ذلك عائشة ــ رضي الله عنها ــ في مسند أحمد، وعند البخاري أنه (يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة). وقال أنس رضي الله عنه: (كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ فتنطلق به حيث شاءت. رواه البخاري.
وقال مرة لرجل : (هون عليك فإنى لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد)، رواه ابن ماجه والحاكم، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. والقديد هو: اللحم المملوح المجفف في الشمس.
وأنت قد تجد طالبا يتعلم ويتعرض للمواقف المحرجة، وقد يطرد من الفصل أو يوبخ، فإذا تخرج، تحول إلى إمام يلبس العباءة ويصلي بالناس ويقصده العوام فتعز عليه نفسه، وينكف وينطوي ويشمخ وتبدأ بذرة الكبر تحكمه دون أن يدري، حتى يتجاهل أشياخه ومعلميه وكبار السن من حوله.
أو يعين قاضيا في بلدة، فيراجعه المدير والمسؤول فيحس بأنه غدا شيئا آخر، ويقرأ في أخلاق القضاة الانكفاف عن الناس؛ فلا يزال حتى يبني أسوارا حول نفسه، ويستثقل أن يذهب إلى السوق أو يشتري أغراضه بنفسه، أو يحمل متاعه بنفسه أو يحمل طفله على يده أو كتفه، أو أن يسير مع امرأته، ويريد أن يفسح له في صدر المجلسن وأن يسكت الناس إذا تكلمن وربما وجد على من لا يطبع القبلة على رأسه أو يتقدمه في الطريق والدخول والخروج.
وهكذا حين يغدو مسؤولا كبيرا قبل أن يتأهل لذلك.
ولو أنه جرب أن يعيش مع من لا يعرفونه ولايعاملونه بمقتضى المنصب أو المنزلة، بل بمقتضى إنسانيته المحضة دون إضافات البتة؛ لكان ذلك درسا جيدا، وقد حدث هذا لي، وعرفني بأهمية هذه الملاحظة، فهنا أنت تعامل دون اعتبار آخر؛ فتتعلم كيف تحافظ على نفسك بعيدا عن التضخيم أو الأبهة أو الترقّب، أنت هنا في دورة لإعادة التأهيل، ولحك الزوائد السلبية التي تتسلل إلى النفس من جراء وجودك في وضع معين قد يحمل بعض الاعتبار.
وما أجمل أن تكون عيون الإنسان مفتحة على ذاته، يراقبها جيدا، ويحاكم مشاعرها وأحاسيسها، وحديثها معه، ومواقفها من الآخرين، ليظل دائم المراجعة والتصويب والتصحيح والحفاظ على الذات من أن تكبر أو تتضخم أو ترى نفسها فوق ما هي عليه.
ولعل الاستعاذة من فجاءة النقمة هي من هذا السبيل؛ فقد ذكر أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خصها بالدعاء لشدتها؛ بسبب وقوعها فجأة؛ بخلاف ما إذا سبقها شيء من التمهيد لها فإنه يكون أخف، وربما كانت سببا في توبة العبد ورجوعه إلى ربه... والله حكيم عليم.
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 138 مسافة ثم الرسالة
أقول لها، وقد طارت شعاعا
من الأبطال: ويحك لا تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم
على الأجلِ الذي لك لن تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا
فما نيل الخلود بمستطاع
ولاثوب البقاء بثوب عز
فيطوى عن أخي الخنع اليراع
سبيل الموت غاية كل حي
فداعيه لأهلِ الأرض داعي
ومن لا يعتبط يسأم ويهرم
وتسلمه المنون إلى انقطاع
وما للمرء خير في حياة
إذا ما عد من سقط المتاع
لأنها كانت جزءا من مقرر النصوص الذي يلزم الطلاب بحفظه.
ولا أدري كيف خطر لي هذا الاسم، وما سبب تسميته بذلك؛ إلا أن ابن حزم، ذكر في (جمهرة أنساب العرب): أن الفجاءة لقب لأبيه؛ لأنه غاب إلى اليمن، ثم أتى قومه فجاءة.
لكنني وجدت كثيرين يصلح أن يوسموا بهذا الاسم !
كان النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ يستعيذ بالله من «فجاءة النقمة» ويقول : «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحولِ عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك» رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
وقال بعض الشراح : «هي فجاءة النعمة».
وما أرى هذا ببعيد.
فالناس يستغربون من الإنسان الذي ينتقل فجأة من الفقر إلى الغنى، ومن الضعف إلى القوة، إذا استطاع أن يحافظ على اتزانه وتواضعه وعلاقاته وشخصيته دون أن يداخله إعجاب أو كبر أو تغير على من حوله، حتى زوجته وولده وخاصة أصدقائه وقرابته.
إذ إن من جاري العادة أن من تدرج من الثروة أو الشهرة أو المنصب أو الجاه، وعانى في سبيل الوصول إلى ما يصبو إليه، يسلم غالبا من غوائل هذه المقامات؛ لأنه يقدر ثمن الجهد المبذول، ولأن النفس تنقلت بصبر وأناة وتسلسل طبعي، ولأنه يدري أن دوام الحال من المحال، فيتوقع أن يفقد ما وجد، ويعود إلى ما كان عليه، فيحافظ على مكاسبه القديمة وعلاقاته وصداقاته، وتبقى شخصيته كما عرفه الناس ببساطته وعفويته، وأنه لا يستمد قوته من وضعه الطارئ القابل للتحول والزوال، بل من نفسيته الجميلة وخصاله النبيلة ومروءته وأخلاقه، وهي باقية مع اختلاف الأحوال، وهذا يصدق عليه قول المتنبي:
وحالات الزمانِ عليك شتى
وحالك واحد في كل حالِ
فإذا فوجئ الإنسان بالمال؛ لم يحسن التوازن في التعامل مع وضعه الجديد؛ فيسرع إليه الطغيان والكبر، ويتنكر لمن حوله، ويتغير عليهم، ولا غرابة؛ لأنه لم يتعرض للمحاولة والفشل والتدريب ولم يقاس الصعاب، ولم تعركه تجارب الحياة.
ومن الحكمة أن يكون ثم تدرج وتسلسل في ترقي الإنسان في أي مقام، حتى مقامات العلم والقيادة والدعوة والإمامة للحفاظ على نفسية الإنسان من الصدمة التي قد لا يحسن التعامل معها.
لقد كان سيد ولد آدم عليه السلام (يخصف نعله، ويخيط ثوبه) كما روت ذلك عائشة ــ رضي الله عنها ــ في مسند أحمد، وعند البخاري أنه (يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة). وقال أنس رضي الله عنه: (كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ فتنطلق به حيث شاءت. رواه البخاري.
وقال مرة لرجل : (هون عليك فإنى لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد)، رواه ابن ماجه والحاكم، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. والقديد هو: اللحم المملوح المجفف في الشمس.
وأنت قد تجد طالبا يتعلم ويتعرض للمواقف المحرجة، وقد يطرد من الفصل أو يوبخ، فإذا تخرج، تحول إلى إمام يلبس العباءة ويصلي بالناس ويقصده العوام فتعز عليه نفسه، وينكف وينطوي ويشمخ وتبدأ بذرة الكبر تحكمه دون أن يدري، حتى يتجاهل أشياخه ومعلميه وكبار السن من حوله.
أو يعين قاضيا في بلدة، فيراجعه المدير والمسؤول فيحس بأنه غدا شيئا آخر، ويقرأ في أخلاق القضاة الانكفاف عن الناس؛ فلا يزال حتى يبني أسوارا حول نفسه، ويستثقل أن يذهب إلى السوق أو يشتري أغراضه بنفسه، أو يحمل متاعه بنفسه أو يحمل طفله على يده أو كتفه، أو أن يسير مع امرأته، ويريد أن يفسح له في صدر المجلسن وأن يسكت الناس إذا تكلمن وربما وجد على من لا يطبع القبلة على رأسه أو يتقدمه في الطريق والدخول والخروج.
وهكذا حين يغدو مسؤولا كبيرا قبل أن يتأهل لذلك.
ولو أنه جرب أن يعيش مع من لا يعرفونه ولايعاملونه بمقتضى المنصب أو المنزلة، بل بمقتضى إنسانيته المحضة دون إضافات البتة؛ لكان ذلك درسا جيدا، وقد حدث هذا لي، وعرفني بأهمية هذه الملاحظة، فهنا أنت تعامل دون اعتبار آخر؛ فتتعلم كيف تحافظ على نفسك بعيدا عن التضخيم أو الأبهة أو الترقّب، أنت هنا في دورة لإعادة التأهيل، ولحك الزوائد السلبية التي تتسلل إلى النفس من جراء وجودك في وضع معين قد يحمل بعض الاعتبار.
وما أجمل أن تكون عيون الإنسان مفتحة على ذاته، يراقبها جيدا، ويحاكم مشاعرها وأحاسيسها، وحديثها معه، ومواقفها من الآخرين، ليظل دائم المراجعة والتصويب والتصحيح والحفاظ على الذات من أن تكبر أو تتضخم أو ترى نفسها فوق ما هي عليه.
ولعل الاستعاذة من فجاءة النقمة هي من هذا السبيل؛ فقد ذكر أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خصها بالدعاء لشدتها؛ بسبب وقوعها فجأة؛ بخلاف ما إذا سبقها شيء من التمهيد لها فإنه يكون أخف، وربما كانت سببا في توبة العبد ورجوعه إلى ربه... والله حكيم عليم.
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 138 مسافة ثم الرسالة