خـــــــولة الكريّــــــــع

ثامر عدنان شاكر

أن تكون عميلا ليس بالضرورة أن تمتلك حبراً سِرياً وجهازا لاسلكيا ماركة سانيو، وكاميرا لتصوير الأماكن السرية في البلاد.. أن تكون عميلا وبقدرة خارقة وأكثر مكراً من أكبر جواسيس العالم على مر التاريخ، يكفي أن تكون مستسلماً خاملا، ناقماً .. حانقاً.. كارهاً لكل ذرة في محيطك، فيمضي يومك وأنت تلعن الجدران والشوارع والهواء .. والناس، لتجد نفسك مؤلفاً بارعاً وممثلا محترفاً في دراما مأساوية لحياةٍ عقيمة بلا أمل.
استمع إلى فيروز الأسطورة وسترى ملامح أرض تطل مع صوتها فتغزو قلبك في أجمل صور الاحتلال، لتشتاق للوطن أياً كنت وأياً كان هو... وهذه هي المعجزة!
اقرأ لنزار وسيُرغمك أن تُفتش عن وطنك داخل سطوره، بعد أن جعل للحبيبة ضرة، سمّاها الوطن.. وما أن تلمح عيناك محمود درويش وأحمد مطر، وإذ بك تُهرول خلفهم، مرغماً لتستقل القطار إلى محطات الوطنية الصارخة، وإن كنت مهاجراً رحالا بلا مرفأ، فدفء الحرف سيُرغمك أن تتبنى وطناً من على صفحة الخرائط المزدحمة بالتضاريس أياً كان جنسيته أو لونه.
استمع للعالمة السعودية خولة الكريّع وقد أطلت في أمسية الإثنينية العريقة، بابتسامة تتحدى سرطانات الدنيا، وبعينين ممتلئتين إنسانية وهدوءا وثورة، وبنبرة صوت يحمل شموخ بلد واعتزاز أنثى وطموح عالمة محاربة، وقد غلّف كل ذلك قيمة واحدة، لا تساويها قيمة.. حب الوطن.
سألوها.. لماذا عدتِ بعد سبع سنوات من الاغتراب والتفوق والإنجاز والفرص، قالت لبلدي عليّ حق!! هي العالمة التي فازت في عام 2007 بجائزة التميز العلمي من جامعة هارفارد العريقة للأبحاث السرطانية وبصمتها الوراثية.. في حين لم تكن الجائزة على بحثٍ معين، بقدر ما كانت تكريماً لمسيرة كفاح عامرة رغم صغر سن الطبيبة المتميزة، لتنال الجائزة من بين 300 طبيبة على مستوى العالم.. فيأتي وسام الدولة من الدرجة الأولى تكريماً لجهد امرأة عرفت قيمة العمل من أجل الإنسان، فرفعت قيمة الأرض بإخلاصها وجدها وتعبها.
درسٌ ثري، تلقننا إياه تلك الوجوه القادرة على التحدي... أن تبتعث إلى الخارج بأموال الوطن، ثم تعود حزيناً نادماً بعد أن حصلت على شهادةٍ وخبرةٍ وثقافة عالم متحضر بين جنبيك، ولا تعرف بعد كل هذا أن تنتصر على مديرٍ خامل يتفنن في حرق طموحك، أو أن تسقط سهواً في حفرة وسط الزحام، فتقتلك، لتتوه ويتغير مسارك عنوة، أو يموت فيك الأمل حين تسمع أن الفساد في مدينتك التي تحب استشرى، وسار سيولا وودياناً مقيتة.
حين لا تقدر أن تستفيد من محصلة تجربة غنية وقد دفعت ثمنها غالياً من شبابك ووقتك وجهدك، ولا تكون لديك رؤية.. أن تغتال الأيام بقسوتها وتخبطاتها من أحلامك، ليصبح الحلم أمنية، و أغنية ضائعة وسط الصخب، وقد أورثتك ليالي الغربة الطويلة الكثير لتسخره في نهضة بلد، فاعلم أنك ضعيف وجبان و مقصر والتقصير أول الدرجات في سلمٍ مهين يُسمى الخيانة في حق الوطن.
لذلك قف واسأل نفسك اليوم .. من أكون وسط أمواج الإحباط التي تعتريني، وتجتاحني كالإعصار، وماذا سأفعل.. وتذكر صورة خولة الكريع وابتسم.
لم نعرف ناجحاً صعد اسمه نجماً دون أن يحمل على أكتافه هموم وطن.. كل من تفوق على ذاته وجعل من حلمه أسطورة، ووثب على القمر، كان أول ما فعل أن زرع الراية على سطح القمر.. في صورة حية لمدى ارتباط الحلم بالوطن في عناق مثير، يغلب عناق العشاق شوقاً ورغبة.
أترانا نقدر أن نكون محملين بهموم أوطاننا. أن ننظر إلى وجوهٍ تبتسم فيكونوا لنا بمثابة المحفز، فيزيدنا ذلك إصراراً على المضي دونما كلل.. أترانا نعرف أن نعشق امرأة لها رائحة الأرض، وعلى جبينها زهرة الأمل، وبين كفيها، وعلى أصابعها تنبت براعم الثقة وأزهار الحنان والصدق، فتحبها لأنك ترى بين عينيها تاريخا وذكريات وعمرا ومستقبلا، وفي ابتسامتها أصالة وطن.
حب الوطن.. المرسى والظهر والسند وإن تململنا وكرهنا يومنا وعامنا ومستقرنا، تبقى المعركة التي تُضيف للحياة معنى وقيمة وهدفا.. هي المعركة التي ينتصر فيها حلم الفرد، من أجل غدٍ أجمل بلا أورام خبيثة تنهش جسده الغالي الذي نحب.
فلنزرع في أبنائنا قيمة الحب والعطاء من أجل مستقبلٍ أجمل.. فالأحلام دون مرسى الوطن، صغيرة جداً وتافهة جداً... وضائعة جداً أمام الريح والأعاصير والقدر.
شكراً خولة الكريّع فبمثلك تزدان الأوطان وترقى.