التحليل السَّيال

سلمان بن فهد العودة

كان أحدهم يتحدث بلهجة الواثق، عن خطة مرسومة محكمة بشأن ما، ويستشهد بأقوال المختصين، ثم يعزز قوله بأدلة تاريخية، وشواهد واقعية، وأمثال مضروبة؛ ليخلص إلى أن الأمر جد لا هزل فيه، وأن المماراة في مصداقية ما يقول ليست سوى ضرب من الخبال والجهالة والسذاجة، أو نوع من التواطؤ مع المتآمر، مقصودا كان هذا التواطؤ أو غير مقصود.

وبعد سنوات؛ تمحض الواقع المشهود بالعيان عن صورة مختلفة كثيرا عما كان يبشر به أو يتوعد به، وفي مجلس مماثل كان الرجل ذاته يتحدث؛ فبادره أحدهم قائلا: أين ما كنت تؤكده بشأن الحدث السابق، وتقطع بأنه كان ضمن خطة ذات إطار سياسي وعسكري؛ توفرت له كافة الإمكانات والوسائل، ولا يوجد ما يعارضه أو يقاومه .. وها نحن نشهد وضعا مغايرا للصورة التي كنت ترسمها؟!

بمقدور صاحب التحليل أن يقول إن ما كنت أتحدث به ليس سوى ظن، والظن يخطئ ويصيب، والتحليل يقرب ويبعد، وقد يلتمس له العذر أن يقول: ظني خير من يقين غيري، مع أن هذا ليس بمسلم.

وباب التوقعات المستقبلية في السياسة أو الاقتصاد أو سواهما هو تخمين وحدس، مثل الكلام في الأرصاد، بل هو دونه، وأقوال المحللين تتضارب وتتقاطع في الأعم الأغلب.

بيد أن صاحبنا ظل متمسكا برأيه، مصرا على أن كل حرف قاله كان صوابا ودقيقا، وأنه لم يكن يرجم بالغيب.

ما الذي جرى إذن؟

أفاد بأن الذي حدث هو أن الخطة المرسومة لم يتحقق لها النجاح لأسباب كثيرة منها...

وهنا نقض الرجل كلامه من حيث لا يدري، لأن تحليل ما سيقع في المستقبل لا يفترض فيه تجاهل المعوقات والممانعات المناقضة؛ فما يجري إذن هو مزيج من الإرادات المتعارضة للبشر، وهو قطعا إرادة الله العظيم الذي لا يقع شيء إلا بإذنه، ولكنه شاء أن يبلو بعضهم ببعض، ويدفع بعضهم ببعض.

والزعم بالاطلاع على تفصيلات الخطط لا يخلو من ادعاء، وإنكار المؤامرة جهالة والوقوع في أسرها قدح في الوحدانية.

المؤامرة جزء محدود في عالم مليء بالمختلفات والدوافع المتباينة التي سماها الله: «دفع الله الناس بعضهم ببعض» وسماها في موضع آخر بسياق آخر «ليتخذ بعضهم بعضا سخريا» وليس معنى «سخريا» هنا مجرد العبودية أو التسلط، بل قد يكون الطرف الواحد يسخر غيره في شيء معين ودائرة محددة، ويكون هو بدوره مسخرا من قبل طرف آخر في موضوع مختلف ودائرة أخرى .. في تسلسل كوني عجيب، تحدث عنه الأعشى في موضوع العلاقات بطريقة ساخرة؛ فقال عن محبوبته:

علقتها عرضا وعلقت رجلا غيري وعلق أخرى غيرها الرجل

والحالة أن بعض المحللين يقف عند سبب واحد حول قضية كبيرة؛ فيجعله هو كل ما في الأمر ويرتاح.

والغالب أن المتنفذين يشجعون التحليلات التي تمنحهم قوة إضافية؛ لأنها تعطيهم بعدا في النفوس وسطوة على العقول، وهم لا يصنعون الأحداث، ولكنهم يستغلونها ويشجعونها، أو يثبطونها حسب هواهم.

وفي مناسبات عدة؛ أجدني شخصيا في فعل اقتضته المصادفة البحتة، والمصادفة هنا لفظ صحيح لغة وشرعا، وليس معناه نفي القدر لكن نفي التخطيط البشري، وقد جاء هذا اللفظ في السنة النبوية من حديث لقيط بن صبرة قال: «قدمنا على رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ فلم نصادفه في منزله وصادفنا عائشة أم المؤمنين» رواه أبو داود والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

المهم؛ أنت تجد نفسك في فعل غير مقصود، وتحدث نفسك أن الكثيرين لو رأوه لما كان لاحتمال المصادفة عندهم مجال، ولا كانوا يمنحونها نسبة ولو ضئيلة من الاحتمال، ولجزموا بأن الأمر مرتب، وبنوا عليه نتائجه التي قد تكون إيجابية، تعبر عن رشد وسداد وسبق لست له بأهل، أو سلبية تعبر عن شك وريبة وتساؤل، لست له بأهل أيضا!

وحقيقة الأمر أنه «عفو» محض.

وهذا الوعي بفعل الذات والنفس وما يقع لها من المصادفة والعفوية التي لا يحتمل التحليل لها إلا ربطها بالقصد المسبق؛ يعطي المرء درسا في أفعال الآخرين؛ بأن منها ما يجري على العفوية والتأتي القدري المنبثق عن مجموعة أسباب متعارضة أو متناقضة، ومنها ما يجري على تخطيط طرف أو أطراف متفقة، ومنها ما يجري خلاف إرادة اللاعبين جميعا.

تقول هذا في أحداث السياسة كما في العراق مثلا، فلا إرادة الولايات المتحدة تحققت بحذافيرها، وإن كانت توصلت للعديد من أهدافها، ولا إرادة الحكومة السابقة ومن يستظل بظلها مضت، ولا إرادة الأطراف المعارضة، ولا القبائل، ولا الدول المجاورة..

تمضي إرادة العزيز الحكيم الفعال لما يريد، ولحكم يعجز الناس عن تقديرها، وفيها العدل الرباني الذي يمنح من يعمل ويدأب ويخطط على المدى الطويل بوعي وروح جماعية، ويقرأ الأحداث والأوضاع قراءة أقرب إلى الصواب.. فيستحق من التفوق واستثمار الظروف أكثر من غيره، بمعزل عن صواب رسالته وخطئها، على أنه لم يحقق أهدافه ولا أمضى خططه، والقول بأنه رسم ثم نفذ فيه غفلة كبيرة عن تحولات الواقع، وعن مجريات السنن الإلهية، وفيه تثبيط للهمم.

في كل تلك الظروف والأحداث الملتهبة، والصراعات والنزاعات؛ يقفز إلى الذهن ذلك التعبير الرباني البديع «ليتخذ بعضهم بعضا سخريا» وفي الآية الأخرى: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض» (البقرة: 251) * فتخطئ التحليلات، بيد أن سنة التسخير والتدافع تبقى قانونا لا يحيد ولا يخطئ.

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 138 مسافة ثم الرسالة