العراق والتدخلات: «اللطم» في يومين بلا معلم

عبدالله بن بجاد العتيبي

أعلنت المفوضية المستقلة العليا للانتخابات في العراق نتائج الانتخابات التي تأخرت أكثر من المعتاد حرصا من المفوضية على الشفافية والعدالة ــ كما يصرح مسؤولوها، وقد جاءت النتائج لتضع حدا للضبابية التي كانت سائدة من قبل، وفازت القائمة العراقية بقيادة علاوي ويليها بفارق مقعدين ائتلاف دولة القانون بقيادة المالكي، ثم الائتلاف الوطني بقيادة الحكيم وبعده التحالف الكردستاني.
علاوي صرح بقبول نتائج الانتخابات وأعلن ــ حسب تصريح لصحيفة الشرق الأوسط ــ قائلا: «أهنئ الشعب العراقي، وأعتبر هذا الفوز نصرا للعراقيين الذين اختاروا الإجماع الوطني والتغيير وأعلنوا قبر المحاصصة الطائفية والسياسية».
أما المالكي، فلم يقبل النتائج وشكك فيها، وكانت له تصريحات مثيرة للجدل حول العنف والإرهاب الذي سيحدث إن لم تكن النتائج حسب ما يتوقعه، وهو ما أثار الكثير من الاستهجان داخل العراق وخارجه، وقد جعلته هذه التصريحات في مرمى نار بعض من كانوا مقربين من تياره في السابق وعلى رأسهم الحكيم والصدر عبر تصريحاتهما القوية ضد المالكي.
لقد كان العراق قويا وسيعود قويا، وليس من مصلحة دول المنطقة التغاضي عما يجري فيه، فهو بحكم حجمه وقوته وعوامل أخرى سيكون شديد التأثير على المنطقة، ومن مصلحة من يملك أوراقا لمساعدة العراق أن يستخدمها الآن، والآن الآن وليس غدا كما يقول الشاعر العربي، فقد جنينا حنضلا نتيجة لقرار الابتعاد عن العراق منذ 2003م، وعلى الدول العربية وفي مقدمتها السعودية أن تلتفت للشأن العراقي وتمنحه ما يستحق من الاهتمام والمساعدة، خصوصا وقد صرح علاوي بعد فوزه بالانتخابات بأنه حريص على توثيق العلاقات مع امتداد العراق العربي ودول الجوار العربية، وهو ما يعني توجها جديدا في السياسة العراقية يجب ألا يمر مرور الكرام.
إن الدول المتعددة الإثنيات أو العرقيات أو الطوائف ــ شأن العراق ــ تعاني دائما في سبيل تحقيق الصيغة الأمثل لها ولشعبها لتحصل على أكبر قدر من الرضا من جانب شعبها، وتكتشف السبيل الأسلم لتحقيق مصالح البلاد الكبرى بعيدا عن الإثنيات أو العرقيات أو الطوائف الضيقة، فالوطن للجميع ومواطنوه متساوون تحت راية القانون.
تقلب العراق الحديث بين الاحتلال الإنجليزي والملكية ثم الشيوعية وبعدها البعثية، وقد كان حصاده حنضلا لا شهدا، وألما لا راحة، وشقاء لا سعادة، ثم تجرع منذ 2003 غصص الطائفية والإرهاب والعنف، وها هي انتخاباته الأخيرة ونتائجها المعلنة تضع قدمه على أول طريق النجاة، وهذه الانتخابات هي الخطوة الأولى في طريق الألف ميل الذي يجب أن يقطعه العراق.
حق ثابت لكل الائتلافات والتيارت والقوميات العراقية أن تقدح في صحة فرز الأصوات في هذه الدائرة أو تلك، وفي هذا المركز أو ذاك، وهو أمر يحدث في كل بقاع الدنيا، ولكن الخطر الحقيقي يكمن في تأجج العواطف والمشاعر والرغبات التي قد تحدو بالبعض للخروج عن منطق الواقع ومنطق التاريخ، والعودة خطوات للوراء، وقد كان في خطاب رئيس الوزراء المنتهية وزارته نوري المالكي شيء مما يشي بطغيان شعور التشبث بالسلطة على شعور مصلحة العراق واستقلاله وتوحده، وهو ما أرجو أن يكون غير صحيح وأن يراجع المالكي مواقفه.
يعلم المراقبون أن العراق بعد ضبابية الوضع قبل الانتخابات سيدخل في إشكاليات معقدة وتحالفات وتقلبات وتنقلات بين الكتل الفائزة، وقد يستمر الوضع لأشهر حتى يستطيع أحد أن يظفر بالمقاعد الكافية داخل البرلمان الجديد لتمرير مشروعه، وربما كان الرابح الأكبر هو القادر على تفكيك الائتلافات المناوئة له، وذلك لترجيح مصلحته، وربما اضطرت هذه الإشكالات التكتلات القوية إلى التخلي عن طموحاتها الكبرى لتسمح بخروج حصان أسود يأتي من خلف الكواليس ليكون قادرا على جمع التناقضات والظفر بقصب السبق وقيادة سفينة العراق إلى بر الأمان.
ثمة حقائق يجب أخذها في الاعتبار، من أهمها أن الحراك العراقي الداخلي لم تزل تؤثر فيه بدرجة كبيرة الولاءات الإقليمية والدولية، ومن ذلك أن إيران قد دخلت بعد الدخول الأمريكي للعراق مباشرة، في حين تقاعست بعض الدول العربية عن لعب نفس الدور وربما انتبهت أخيرا لهذا الخطأ التاريخي في ترك العراق أو التغافل عما يجري فيه، وذلك التقاعس كان إما غضبا من حماقات الرئاسة الأمريكية السابقة، وإما شكا في المسؤولين العراقيين وولاءاتهم، وإما لعدم الرغبة في نجاح تجربة ديموقراطية قريبة ومؤثرة، كما يحب أن يتفيهق بعض المحللين الغربيين، وإما أخيرا غفلة عن أثر ما يجري في العراق على دول الجوار العربي أولا ودول العالم ثانيا.
جمعني حديث مع أحد الساسة العراقيين، وكان في تحليله ما يثير ويجلب الانتباه، ففي الحديث عن إيران تحدث بصراحة عن دعمها اللا محدود لبعض المظاهر التي تضمن لها سيطرة على شرائح عريضة من العراقيين عبر بناء الحوزات ونشرها في شتى أنحاء العراق وبخاصة الجنوب حيث الشيعة المزارعون الفقراء، وصرفها المليارات على نشر التشيع الصفوي بينهم، وتوزيعها المجاني لملايين «الزناجيل» التي تستخدم في اللطم عليهم، مع خدمة أخرى هي تعليمهم اللطم في يومين بلا معلم!
هذا عملها على مستوى الأفراد البسطاء، أما عملها على مستوى الكتل الكبرى والجماعات المنظمة فحدث ولا حرج، من الأحزاب السياسية إلى الجماعات الإرهابية، وهو ما لم يقابله للأسف عمل بنفس القوة والاتساع من قبل الدول العربية.
بالرغم من هذا كله، فإن ارتقاء وعي الناخب العراقي قد قاده إلى اختيار العلمانية الوطنية لتكون خياره الذي يرجو به الخلاص من براثن الطائفية والعرقية والإثنية، وهو ما يجعل الوقت مناسبا لبدء العمل في مساعدة العراق من قبل الدول العربية على شق طريقه نحو الاستقرار والأمن وتوثيق صلاته بعمقه العربي.
بحكم دراستي في إحدى الجامعات، كان معي في الدراسة شاب إيراني عالي الأدب والخلق، وحين سألته عن الوضع الإيراني الداخلي انفجر بسيل من الآلام وأكد دعمه للمعارضة في إيران وموسوي، وتعجب من أمرين، الأول: ما يعتبره عملية إفقار للشعب الإيراني بنثر ثروته ومقدراته على دول متعددة في المنطقة وجماعات مختلفة في العالم العربي بدلا من إنفاقها على حاجات الشعب الداخلية، والثاني: إغراق بعض القيادات السياسية الإيرانية في الخرافة والمهدي المنتظر والهالات ونحوها.
إن في حديث هذا الشاب الكثير من الصحة، والوعي الذي تكتنزه كلماته يثير الإعجاب، وربما كان في انتشار مثل هذا الوعي لدى المواطن الإيراني ما يفسر ضعف التأثير الإيراني على الانتخابات الأخيرة في العراق.
العمامة والعقال، أو شيخ الدين وشيخ العشيرة، تمثل ثنائية يجدر الانتباه لها حين النظر في فسيفساء المجتمع العراقي، إضافة للخط الثالث الذي فرض نفسه بقوة هذه المرة وهو الخط المتمثل في القوى الليبرالية والعلمانية العراقية، والتي حصدت نجاحا لم يكن متوقعا في هذه الانتخابات بقيادة علاوي، ورحم الله نزار قباني حين قال:
في فمي يا عراق ماء كثير ... كيف يشكو من كان في فيه ماء.
Bjad33@gmail.com
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة