المرأة عورة لا يظهر شيء منها إلا ما ثبت جوازه بالأدلة
هل حدد الشرع معايير للزينة واللباس بين النساء؟
الأربعاء / 01 / رجب / 1427 هـ الأربعاء 26 يوليو 2006 19:33
علي بن محمد الريشان *
اختلف أهل العلم في الشيء الذي يجوز أن تظهره المرأة أمام النساء من زينتها، فبعض أهل العلم أجاز لها أن تظهر ما فوق السرة وتحت الركبة أمام المرأة لأدلة رأوا أنها تفيد جواز إظهار ذلك. وخالفهم آخرون فمنعوا المرأة من إظهار ما زاد على ما جرت العادة – أعني عادة نساء السلف الصالح – إظهاره في البيت وحال المهنة.معلوم أنه عند التنازع والاختلاف فإنه يجب الرجوع إلى الكتاب والسنة قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا).
فإلى أدلة الفريقين ثم ذكر الراجح:
أولاً: أدلة المانعين من إظهار ما زاد على ما يظهر عادة:
الدليل الأول:
قال الله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون).
قالوا: في الآية الأمر بغض البصر عما لا يحل وحفظ الفرج عما حرم الله، والنهي عن إبداء الزينة إلا ما ظهر منها دون قصد.
وفيها أيضا النهي عن إبداء وإظهار شيء من الزينة الخفية إلا لأزواجهن أو آبائهن.. الخ ما ذكر في الآية، فهؤلاء جاءت الآية بإباحة إظهار شيء من الزينة الخفية للمرأة مما جرى عرف من نزل عليهم القرآن بإظهاره أمامهم، وخص الزوج بعدم إخفاء شيء من الزينة الباطنة عنه لأدلة أخرى.
وقد فسّر السلف الآية بنحو ما قلنا فقد روى ابن جرير رحمه الله من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) إلى قوله (عورات النساء).
قال: الزينة التي تبديها لهؤلاء قرطها وقلادتها وسوارها، فأما خلخالها وعضداها ونحرها وشعرها فإنه لا تبديه إلا لزوجها، وعند البيهقي فيه زيادة انظر السنن الكبرى (7/152 رقم 13537).
وهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنه وإعلاله بضعف عبد الله بن صالح لا شيء فعبد الله بن صالح ثبت في كتابه، وهذه الرواية من كتاب وهي صحيفة على بن أبي طلحة، التي رواها عن عبد الله بن صالح جمع غفير من أئمة أهل الحديث.
أما الانقطاع بين على بن أبي طلحة وابن عباس فقد عرفت فيه الواسطة وهم الأثبات من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير، وقد اعتمدها الأئمة رحمهم الله، فانظر ـ إن شئت ـ صحيح البخاري وتفسير ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم من أئمة السلف رحمهم الله وإعلال بعض المتأخرين بالعلل السابقة المذكورة غفلة عن منهج السلف في تعاملهم مع أمثال هذه الصحيفة.
وروى رحمه الله أيضا من طريق ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) الآية. قال: تبدي لهؤلاء الرأس. وإسناده صحيح.
وروي عن إبراهيم النخعي رحمه الله من طريق سفيان عن منصور عن طلحة عن إبراهيم قال: هذه ما فوق الذراع. وهذا إسناد صحيح، ومن طريق أخرى قال: ما فوق الجيب. ولكن في سنده من يُجهل.
وما جاء في تفسير ابن عباس رضي الله عنه وقتادة وإبراهيم وما قاله ابن جرير رحم الله الجميع في تفسيره لهذه الآية فيه تحديد للمواضع التي يجوز للمرأة أن تبديها لمن ذكر في الآية إلا من خُص بمزيد الاطلاع على الزينة الخفية لأدلة أخرى وهو الزوج فقط.
الدليل الثاني:
ثبت في السنة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان...» رواه الترمذي(117) وابن خزيمة(1685) وابن حبان (5599،5598) وغيرهم. وقد أعل بالوقف، ولكن الصحيح ثبوته مرفوعاً كما رجحه جمع من الأئمة الحفاظ منهم الدارقطني رحمه الله وتفصيل هذا فيه طول. ففي هذا الحديث أن المرأة عورة، والعورة لا يجوز إظهار شيء منها إلا ما ثبت جواز إظهاره بأدلة أخرى سيأتي ذكر شيء منها في موضعه إن شاء الله تعالى.
الدليل الثالث:
روى الإمام أحمد (22131،22129) وغيره من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن أسامة بن زيد أن أباه أسامة قال كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهداها دحية الكلبي فكسوتها امرأتي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مالك لم تلبس القبطية؟» قلت: يا رسول الله كسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مرها فلتجعل تحتها غِلالة إني أخاف أن تصف حجم عظامها».
وهذا الحديث وإن كان من رواية ابن عقيل عن محمد بن أسامة بن زيد، والأول وصف بسوء الحفظ خاصة لما كبر والثاني جهل حاله بعض الأئمة كالدارقطني رحمه الله.
إلا أن هناك من ثبت ابن عقيل من الأئمة، ونقل البخاري عن أحمد وإسحاق والحميدي الاحتجاج بحديثه، فحديثه محتج به ما لم يخالف، ووثق محمد بن أسامة بعض الأئمة كابن سعد وابن حبان رحم الله الجميع، وهذا الحديث جدير بالثبوت، ولا سيما أنه ليس في لفظه ما يُنكر.
وله شاهد ضعيف من حديث دحية الكلبي رضي الله عنه رواه أبو داود (4116) و الحاكم والبيهقي من طريقه انظر سننه الكبرى (3261).
وعليه فإن هذا الحديث يدل على النهي عن لبس الثياب الضيقة التي تصف الأعضاء ومن المعلوم أن هذا النهي عام فيما يلبس داخل البيت وخارجه، وإن كان خارجه أشد.
وأكثر ما يطرق المرأة في بيتها هم النساء فهن ممن منعت المرأة من لبس ما يصف عظامها أمامهن فكيف يجوز لها إظهار وكشف ما فوق السرة ودون الركبة.
فائدة:
بعض أهل العلم جعل تفسير حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا». فقال: إن الكاسيات العاريات منهن من يلبس الثياب الضيقة التي تصف أعضاء الجسد.
الدليل الرابع:
روى البخاري رحمه الله في صحيحه (5240) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها». وهذا النهي عن المباشرة لأنه قد يفضي إلى تطليق الواصفة أو الافتتان بالموصوفة، كما أن فيه إسقاطاًً لمعنى الحجاب والمقصود منه ـ ينظر الفتح عند شرح الحافظ ابن حجر رحمه الله لهذا الحديث ـ وإظهار ما لم تجر العادة وعرف النساء بإظهاره من أقوى الوسائل للوقوع في هذا المحظور كما هو معلوم بداهة، فيكون منع إظهار ما زاد على المعتاد من جهتين:
الأولى: لأنه من العورة كما سبق تقريره، والثاني: لأنه وسيلة للوقوع في المحظور الذي جاء الحديث النبوي السابق ذكره بالزجر عنه.
الدليل الخامس:
روى مسلم رحمه الله في صحيحه (1/266) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد» وهو عند أبي داود (4018)، والترمذي (2793).وفي هذا الحديث النهي عن النظر إلى عورة المرأة وهي ما سوى المظهر عرفاً ولو لم يحصل الوصف من الناظرة عن المنظور إليها.
ثانياً: أدلة القائلين بأن عورة المرأة من المرأة كعورة الرجل من الرجل:
ذهب جمهرة من الفقهاء إلى أن عورة المرأة من المرأة كعورة الرجل من الرجل وإلى أن للمرأة أن ترى من المرأة ما يجوز أن يراه الرجل من الرجل، واستدلوا ـ كما يتبين بالاستقراء والتتبع ـ لقولهم هذا بأدلة وهي:
الدليل الأول:
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما فوق الركبتين من العورة وما أسفل من السرة من العورة» رواه الدارقطني (879) والبيهقي من طريقه (3237).
قالوا: هذا الحديث نص صريح في تحديد العورة وهو عام للرجال والنساء فليس في الحديث تحديد فيحمل على العموم. كما يشهد له الحديث التالي.
الدليل الثاني:
ما جاء من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «علموا صبيانكم الصلاة وأدبوهم عليها في عشر وفرقوا بينهم في المضاجع، وإذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى عورتها والعورة ما بين السرة والركبة» رواه البيهقي (3236). ورواه أبو داوود (4113) بلفظ: «إذا زوج أحدكم عبده أمته، فلا ينظر إلى عورتها» وجاء تفسير هذه اللفظة برواية أخرى وهي عند أبي داود (496) أيضاَ: «فلا ينظر إلى ما فوق الركبة ودون السرة».
الدليل الثالث:
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ستفتح لكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتاً يقال لها الحمامات فلا يدخلنها الرجال إلا بالأزر وامنعوها النساء إلا مريضة أو نفساء». رواه أبو داود (4007)، وابن ماجه (3854).
الدليل الرابع:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احذروا بيتاً يقال له الحمام» قالوا: يا رسول الله إنه يذهب الدرن وينفع المريض قال: «فمن دخله فليستتر». والحديث فيه جواز دخول الحمام بشرط الاستتار أي للعورة، وليس في الحديث منع النساء من دخوله إلا بشرط وهو الاستتار للعورة فقط، فإذاً الضرورة إلى انكشاف ما سوى العورة متحققة فيما بينهن، وسبق تحديد العورة في حديث أبي أيوب وحديث عبد الله بن عمرو والذي جاء من طريق عمرو بن شعيب.
الدليل الخامس:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما كتبه إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: «بلغني أن نساءً من نساء المسلمين قبلك يدخلن الحمام مع نساء مشركات فانه عن ذلك أشد النهي فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن يرى عورتها غير أهل دينها». ففي هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه النص على إباحة رؤية العورة للنساء المؤمنات فيما بينهن ويحمل على ما سوى العورة المغلظة.
الدليل السادس:
قال صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة». ففي هذا الحديث دليل على التساوي في حدود العورة بدلالة الاقتران والقياس، وقد ثبت عندنا أن عورة الرجل من الرجل ما بين السرة إلى الركبة فكذلك المرأة.
الدليل السابع:
إجماع أهل العلم على جواز قيام المرأة بتغسيل المرأة كما يغسل الرجل الرجل، فكما للرجل الاطلاع على ما فوق السرة ودون الركبة من الرجل حياً و ميتاً، فيجوز إذن أن تظهر المرأة للمرأة ما فوق السرة ودون الركبة لوجود المجانسة التي تبيح ذلك، فالناظر والمنظور إليه كلاهما من النساء. وردوا على من احتج عليهم بالآية بأنها لا تفيد ما فهمه المانعون لأن دلالة الاقتران ضعيفة ومن القرائن على ضعف مأخذ القائلين بها ذكر البعل في الآية، فهي إذا لا تفيد التساوي فيما يجوز إظهاره، بل غاية ما تفيده اشتراكهم في المنع من اطلاعهم على جزء من الزينة الخفية كل بحسبه، وللنساء الاطلاع على ماعدا ما بين السرة والركبة وإظهاره فيما بينهن للأدلة السابق ذكرها.
اعتراض المانعين:
وقد رد المانعون على أدلة هؤلاء بأن هذه الأدلة التي احتجوا بها تنقسم إلى قسمين: قسم صريح غير صحيح، وقسم صحيح غير صريح، وتفصيل ذلك فيما يلي:
أولاً:حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه والذي جعلوه نصاً في تحديد العورة لعموم الرجال والنساء.
لا يصح البتة فقد رواه الدارقطني والبيهقي من طريق سعيد بن راشد عن عباد بن كثير عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي أيوب رضي الله عنه، وسعيد بن راشد وعباد بن كثير متروكان، فسقط هذا الحديث.
ثانياً: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «علموا صبيانكم الصلاة...» الحديث جاء من طريق الخليل بن مرة عن ليث بن أبي سليم عن عمرو بن شعيب ، ولا يصح، فالخليل ضعيف، وليث مختلط لم يتميز حديثه، فيكفي علة واحدة من هاتين العلتين لرده.
ورواية أبي داود التي جاءت من طريق الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: «إذا زوج أحدكم عبده أمته أو أجيره، فلا ينظر إلى عورتها».
ورواه وكيع عن أبي حمزة الصيرفي داود بن سوار ـ فقلب اسمه ـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً بلفظ: «فلا ينظر إلى ما فوق الركبة ودون السرة».
فإن الرواة عن عمرو بن شعيب قد اضطربوا في هذا الحديث فجاء كما في الروايات السابقة النهي عن النظر إلى عورة الأمة إذا زوجت، وحددت فيما بين السرة والركبة.
وجاءت رواية أخرى من طريق النضر بن شميل عن أبي حمزة الصيرفي وهو سوار بن داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: «وإذا زوج أحدكم عبده أو أمته أو أجيره، فلا تنظر الأمة إلى شيء من عورته، فإن ما تحت سرته إلى ركبته من العورة» رواه الدارقطني وهي عند البيهقي جميعها في سننه، انظر (2/320).
وهذه الرواية فيها تحديد العورة للسيد وهو الرجل بخلاف الرواية الأولى، مما يدل على اضطراب الراوي في ضبط هذه اللفظة ولا سيما الرواية الأخيرة فمدارها على أبي حمزة الصيرفي ومجمل أقوال الأئمة فيه أن فيه ضعفاً، فهذا الاضطراب منه، بل ذكر الدارقطني عنه أنه لا يتابع على رواياته، وقد رواها بواسطة محمد بن جحادة الثقة عن عمرو بن شعيب كما عند البيهقي (3235)، فهذه علة أخرى لروايته هذا الحديث، لذلك قال البيهقي رحمه الله كما في سننه الكبرى (2/320) بعد روايته لهذه الألفاظ: [وهذه الرواية إذا قرنت برواية الأوزاعي دلنا على أن المراد بالحديث نهي السيد عن النظر إلى عورتها إذا زوجها وأن عورة الأمة ما بين السرة والركبة و سائر طرق هذا الحديث يدل وبعضها ينص على أن المراد به نهي الأمة عن النظر إلى عورة السيد بعد ما زوجت أو نهي الخادم من العبد الأخير عن النظر إلى عورة السيد بعدما بلغنا النكاح فيكون الخبر وارداً في بيان مقدار العورة من الرجل لا في بيان مقدارها من الأمة أ.هـ كلامه رحمه الله.
وانظر: سنن البيهقي الأحاديث
(3237،3236،3235،3234،3233،3224،3223،3219).
كما أن هذا الحديث بألفاظه المختلفة لو صح فيه تحديد عورة الأمة، لا المرأة الحرة. والفرق في الاستتار بين الأمة والحرة لا يخفى، وهذا ثابت بالأدلة الصحيحة من سنته صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة رضي الله عنهم، مع العلم أن بعض أهل الحديث لم يثبت هذه الرواية ولم يعرج عليها في تحديد عورة الرجل.
وينظر كلام الإمام ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن (6/18).
ثالثاً: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: «تفتح لكم أرض العجم...» رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي عن عبد الرحمن بن رافع عن عبد الله بن عمرو به. وهذا لا يصح، ففيه الأفريقي وضعفه أشهر من أن يُعرف، وشيخه عبد الرحمن بن رافع مجهول. ولو صح فليس فيه رخصة إلا لذوات الحاجة من النساء، ولا يلزم من الدخول انكشاف العورات كما هو معلوم.
رابعاً: حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه مرفوعاً: «احذروا بيتاً يقال له الحمام..» رواه البزار (211-مختصر زوائده للحافظ ابن حجر) فقال: أخبرنا يوسف بن موسى أخبرنا يعلى بن عبيد أخبرنا سفيان الثوري عن ابن طاووس عن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه.
وظاهر هذا الإسناد الصحة ولذلك اغتر به بعض العلماء فصححه، ولكن الصواب فيه أنه مرسل كما رواه جمع من الحفاظ.
قال البزار رحمه الله: (رواه الناس عن طاووس مرسلاً، ولا نعلم أحداً وصله إلا يوسف عن يعلى عن الثوري) أ.هـ كلامه.
والذي يظهر أن الخطأ في وصله من يعلى بن عبيد روايه عن الثوري فهو وإن كان ثقة ففي روايته عن الثوري ضعف، وقد جاءت أحاديث أصح منه إسناداً تعارضه والذي قبله منها:
ما رواه أبو داود (2006) والترمذي (2803) من طريق أبي المليح الهذلي أن نساء من أهل حمص أو من أهل الشام دخلن على عائشة فقالت: أنتن اللاتي يدخلن نساءكن الحمامات سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها» وقد صحح هذا لحديث جمع من العلماء. وفي الباب أحاديث أخرى عن جمع من الصحابة منهم: عمر وأبي أيوب وجابر الأنصاريين وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم جميعاً انظر: مسند أحمد وسنن الترمذي وسنن النسائي ومستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان وغيرهم، وبعضها يشهد لبعض كما قال بعض أهل العلم.
مع أن الحافظ الحازمي رحمه الله قال في كتابه الاعتبار (187): (باب النهي عن دخول الحمام ثم الإذن فيه بعد ذلك.. ـ ثم قال في آخره ـ وأحاديث الحمام كلها معلولة ـ يعني المرفوعات ـ وإنما يصح فيها عن الصحابة رضي الله عنهم) أ.هـ كلامه،وقد ضعفها كذلك الحافظ عبد الحق الأشبيلي كما في الأحكام الوسطى له (1/244).
خامساً: ما جاء عن عمر رضي الله عنه فيما كتبه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه.
فهذا الأثر لا يصح:
فقد رواه عبد الرزاق (1134) عن ابن المبارك عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي ـ قال ابن الأعرابي ـ: وجدت في كتاب غيري عن قيس بن الحارث قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بلغني فذكره. ورواه عبد الرزاق أيضاً (1136) من طريق إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي عن قيس بن الحارث قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة فذكره.
ولكن رواه سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي عن أبيه عن الحارث بن قيس قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فذكره، فزاد فيه عن أبيه، وجعله من رواية الحارث بن قيس. ورواه سعيد بن منصور أيضاً عن عيسى بن يونس عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه... فذكره وانظر البيهقي رقم (13542). ورواه ابن جرير رحمه الله كذلك عن عيسى بن يونس بمثله. ففي رواية ابن المبارك عند عبد الرزاق وعيسى بن يونس عند سعيد بن منصور وابن جرير عن عبادة بن نسي مرسلاً. وزاد إسماعيل بن عياش كما في رواية سعيد بن منصور عن عبادة عن أبيه عن الحارث بن قيس، ونسي والد عبادة مجهول. وانظر: مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن كثير رحمه الله (2/601) و سنن البيهقي (7/153)وأسقطه في رواية عبد الرزاق فيكون الأثر منقطعاً بين عبادة وقيس بن الحارث، كما أنه جعله من رواية الحارث بن قيس بدل قيس بن الحارث.
وهذا كله يدل على اضطراب إسماعيل في روايته لهذا الأثر. بينما الأثبات رووه عن عبادة مرسلاً، زد على ذلك الاختلاف الكثير في المتن وورود تلك اللفظة المنكرة في بعض رواياته وهي: (فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر ـ وفي رواية أن يرى ـ عورتها إلا أهل ملتها).
والجميع ـ المانعون والمجيزون ـ متفقون على تحريم كشف العورة وتحريم النظر إليها. فإن كان المقصود ما فوق السرة فهذا يؤيد قول من قال بأنه عورة وإن كان المقصود ما بين السرة والركبة فالجميع على اتفاق إلا من شذ بأنه لا يحل إظهاره والنظر إليه إلا لزوج أو سيد فكيف يجوز للمرأة أن تطلع النساء على عورتها إذا كان المقصود المعنى الثاني وعلى كل حال فهذه اللفظة لا تثبت.
وقد صح عن عمر رضي الله عنه خلاف ذلك:
قال عبد الرزاق (1133): عن ابن جريح أخبرني سليمان بن موسى عن زياد بن جارية حدثه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان يكتب إلى الآفاق: (لا يدخلن امرأة مسلمة الحمام إلا من سقم وعلموا نساءكم سورة النور) ففي هذا الأثر إباحة دخوله للمسلمة المريضة لحاجة الاستشفاء، والتأكيد على الاستتار بقوله رضي الله عنه: وعلموا نساءكم سورة النور.
* باحث شرعي
فإلى أدلة الفريقين ثم ذكر الراجح:
أولاً: أدلة المانعين من إظهار ما زاد على ما يظهر عادة:
الدليل الأول:
قال الله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون).
قالوا: في الآية الأمر بغض البصر عما لا يحل وحفظ الفرج عما حرم الله، والنهي عن إبداء الزينة إلا ما ظهر منها دون قصد.
وفيها أيضا النهي عن إبداء وإظهار شيء من الزينة الخفية إلا لأزواجهن أو آبائهن.. الخ ما ذكر في الآية، فهؤلاء جاءت الآية بإباحة إظهار شيء من الزينة الخفية للمرأة مما جرى عرف من نزل عليهم القرآن بإظهاره أمامهم، وخص الزوج بعدم إخفاء شيء من الزينة الباطنة عنه لأدلة أخرى.
وقد فسّر السلف الآية بنحو ما قلنا فقد روى ابن جرير رحمه الله من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) إلى قوله (عورات النساء).
قال: الزينة التي تبديها لهؤلاء قرطها وقلادتها وسوارها، فأما خلخالها وعضداها ونحرها وشعرها فإنه لا تبديه إلا لزوجها، وعند البيهقي فيه زيادة انظر السنن الكبرى (7/152 رقم 13537).
وهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنه وإعلاله بضعف عبد الله بن صالح لا شيء فعبد الله بن صالح ثبت في كتابه، وهذه الرواية من كتاب وهي صحيفة على بن أبي طلحة، التي رواها عن عبد الله بن صالح جمع غفير من أئمة أهل الحديث.
أما الانقطاع بين على بن أبي طلحة وابن عباس فقد عرفت فيه الواسطة وهم الأثبات من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير، وقد اعتمدها الأئمة رحمهم الله، فانظر ـ إن شئت ـ صحيح البخاري وتفسير ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم من أئمة السلف رحمهم الله وإعلال بعض المتأخرين بالعلل السابقة المذكورة غفلة عن منهج السلف في تعاملهم مع أمثال هذه الصحيفة.
وروى رحمه الله أيضا من طريق ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) الآية. قال: تبدي لهؤلاء الرأس. وإسناده صحيح.
وروي عن إبراهيم النخعي رحمه الله من طريق سفيان عن منصور عن طلحة عن إبراهيم قال: هذه ما فوق الذراع. وهذا إسناد صحيح، ومن طريق أخرى قال: ما فوق الجيب. ولكن في سنده من يُجهل.
وما جاء في تفسير ابن عباس رضي الله عنه وقتادة وإبراهيم وما قاله ابن جرير رحم الله الجميع في تفسيره لهذه الآية فيه تحديد للمواضع التي يجوز للمرأة أن تبديها لمن ذكر في الآية إلا من خُص بمزيد الاطلاع على الزينة الخفية لأدلة أخرى وهو الزوج فقط.
الدليل الثاني:
ثبت في السنة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان...» رواه الترمذي(117) وابن خزيمة(1685) وابن حبان (5599،5598) وغيرهم. وقد أعل بالوقف، ولكن الصحيح ثبوته مرفوعاً كما رجحه جمع من الأئمة الحفاظ منهم الدارقطني رحمه الله وتفصيل هذا فيه طول. ففي هذا الحديث أن المرأة عورة، والعورة لا يجوز إظهار شيء منها إلا ما ثبت جواز إظهاره بأدلة أخرى سيأتي ذكر شيء منها في موضعه إن شاء الله تعالى.
الدليل الثالث:
روى الإمام أحمد (22131،22129) وغيره من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن أسامة بن زيد أن أباه أسامة قال كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهداها دحية الكلبي فكسوتها امرأتي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مالك لم تلبس القبطية؟» قلت: يا رسول الله كسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مرها فلتجعل تحتها غِلالة إني أخاف أن تصف حجم عظامها».
وهذا الحديث وإن كان من رواية ابن عقيل عن محمد بن أسامة بن زيد، والأول وصف بسوء الحفظ خاصة لما كبر والثاني جهل حاله بعض الأئمة كالدارقطني رحمه الله.
إلا أن هناك من ثبت ابن عقيل من الأئمة، ونقل البخاري عن أحمد وإسحاق والحميدي الاحتجاج بحديثه، فحديثه محتج به ما لم يخالف، ووثق محمد بن أسامة بعض الأئمة كابن سعد وابن حبان رحم الله الجميع، وهذا الحديث جدير بالثبوت، ولا سيما أنه ليس في لفظه ما يُنكر.
وله شاهد ضعيف من حديث دحية الكلبي رضي الله عنه رواه أبو داود (4116) و الحاكم والبيهقي من طريقه انظر سننه الكبرى (3261).
وعليه فإن هذا الحديث يدل على النهي عن لبس الثياب الضيقة التي تصف الأعضاء ومن المعلوم أن هذا النهي عام فيما يلبس داخل البيت وخارجه، وإن كان خارجه أشد.
وأكثر ما يطرق المرأة في بيتها هم النساء فهن ممن منعت المرأة من لبس ما يصف عظامها أمامهن فكيف يجوز لها إظهار وكشف ما فوق السرة ودون الركبة.
فائدة:
بعض أهل العلم جعل تفسير حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا». فقال: إن الكاسيات العاريات منهن من يلبس الثياب الضيقة التي تصف أعضاء الجسد.
الدليل الرابع:
روى البخاري رحمه الله في صحيحه (5240) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها». وهذا النهي عن المباشرة لأنه قد يفضي إلى تطليق الواصفة أو الافتتان بالموصوفة، كما أن فيه إسقاطاًً لمعنى الحجاب والمقصود منه ـ ينظر الفتح عند شرح الحافظ ابن حجر رحمه الله لهذا الحديث ـ وإظهار ما لم تجر العادة وعرف النساء بإظهاره من أقوى الوسائل للوقوع في هذا المحظور كما هو معلوم بداهة، فيكون منع إظهار ما زاد على المعتاد من جهتين:
الأولى: لأنه من العورة كما سبق تقريره، والثاني: لأنه وسيلة للوقوع في المحظور الذي جاء الحديث النبوي السابق ذكره بالزجر عنه.
الدليل الخامس:
روى مسلم رحمه الله في صحيحه (1/266) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد» وهو عند أبي داود (4018)، والترمذي (2793).وفي هذا الحديث النهي عن النظر إلى عورة المرأة وهي ما سوى المظهر عرفاً ولو لم يحصل الوصف من الناظرة عن المنظور إليها.
ثانياً: أدلة القائلين بأن عورة المرأة من المرأة كعورة الرجل من الرجل:
ذهب جمهرة من الفقهاء إلى أن عورة المرأة من المرأة كعورة الرجل من الرجل وإلى أن للمرأة أن ترى من المرأة ما يجوز أن يراه الرجل من الرجل، واستدلوا ـ كما يتبين بالاستقراء والتتبع ـ لقولهم هذا بأدلة وهي:
الدليل الأول:
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما فوق الركبتين من العورة وما أسفل من السرة من العورة» رواه الدارقطني (879) والبيهقي من طريقه (3237).
قالوا: هذا الحديث نص صريح في تحديد العورة وهو عام للرجال والنساء فليس في الحديث تحديد فيحمل على العموم. كما يشهد له الحديث التالي.
الدليل الثاني:
ما جاء من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «علموا صبيانكم الصلاة وأدبوهم عليها في عشر وفرقوا بينهم في المضاجع، وإذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى عورتها والعورة ما بين السرة والركبة» رواه البيهقي (3236). ورواه أبو داوود (4113) بلفظ: «إذا زوج أحدكم عبده أمته، فلا ينظر إلى عورتها» وجاء تفسير هذه اللفظة برواية أخرى وهي عند أبي داود (496) أيضاَ: «فلا ينظر إلى ما فوق الركبة ودون السرة».
الدليل الثالث:
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ستفتح لكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتاً يقال لها الحمامات فلا يدخلنها الرجال إلا بالأزر وامنعوها النساء إلا مريضة أو نفساء». رواه أبو داود (4007)، وابن ماجه (3854).
الدليل الرابع:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احذروا بيتاً يقال له الحمام» قالوا: يا رسول الله إنه يذهب الدرن وينفع المريض قال: «فمن دخله فليستتر». والحديث فيه جواز دخول الحمام بشرط الاستتار أي للعورة، وليس في الحديث منع النساء من دخوله إلا بشرط وهو الاستتار للعورة فقط، فإذاً الضرورة إلى انكشاف ما سوى العورة متحققة فيما بينهن، وسبق تحديد العورة في حديث أبي أيوب وحديث عبد الله بن عمرو والذي جاء من طريق عمرو بن شعيب.
الدليل الخامس:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما كتبه إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: «بلغني أن نساءً من نساء المسلمين قبلك يدخلن الحمام مع نساء مشركات فانه عن ذلك أشد النهي فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن يرى عورتها غير أهل دينها». ففي هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه النص على إباحة رؤية العورة للنساء المؤمنات فيما بينهن ويحمل على ما سوى العورة المغلظة.
الدليل السادس:
قال صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة». ففي هذا الحديث دليل على التساوي في حدود العورة بدلالة الاقتران والقياس، وقد ثبت عندنا أن عورة الرجل من الرجل ما بين السرة إلى الركبة فكذلك المرأة.
الدليل السابع:
إجماع أهل العلم على جواز قيام المرأة بتغسيل المرأة كما يغسل الرجل الرجل، فكما للرجل الاطلاع على ما فوق السرة ودون الركبة من الرجل حياً و ميتاً، فيجوز إذن أن تظهر المرأة للمرأة ما فوق السرة ودون الركبة لوجود المجانسة التي تبيح ذلك، فالناظر والمنظور إليه كلاهما من النساء. وردوا على من احتج عليهم بالآية بأنها لا تفيد ما فهمه المانعون لأن دلالة الاقتران ضعيفة ومن القرائن على ضعف مأخذ القائلين بها ذكر البعل في الآية، فهي إذا لا تفيد التساوي فيما يجوز إظهاره، بل غاية ما تفيده اشتراكهم في المنع من اطلاعهم على جزء من الزينة الخفية كل بحسبه، وللنساء الاطلاع على ماعدا ما بين السرة والركبة وإظهاره فيما بينهن للأدلة السابق ذكرها.
اعتراض المانعين:
وقد رد المانعون على أدلة هؤلاء بأن هذه الأدلة التي احتجوا بها تنقسم إلى قسمين: قسم صريح غير صحيح، وقسم صحيح غير صريح، وتفصيل ذلك فيما يلي:
أولاً:حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه والذي جعلوه نصاً في تحديد العورة لعموم الرجال والنساء.
لا يصح البتة فقد رواه الدارقطني والبيهقي من طريق سعيد بن راشد عن عباد بن كثير عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي أيوب رضي الله عنه، وسعيد بن راشد وعباد بن كثير متروكان، فسقط هذا الحديث.
ثانياً: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «علموا صبيانكم الصلاة...» الحديث جاء من طريق الخليل بن مرة عن ليث بن أبي سليم عن عمرو بن شعيب ، ولا يصح، فالخليل ضعيف، وليث مختلط لم يتميز حديثه، فيكفي علة واحدة من هاتين العلتين لرده.
ورواية أبي داود التي جاءت من طريق الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: «إذا زوج أحدكم عبده أمته أو أجيره، فلا ينظر إلى عورتها».
ورواه وكيع عن أبي حمزة الصيرفي داود بن سوار ـ فقلب اسمه ـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً بلفظ: «فلا ينظر إلى ما فوق الركبة ودون السرة».
فإن الرواة عن عمرو بن شعيب قد اضطربوا في هذا الحديث فجاء كما في الروايات السابقة النهي عن النظر إلى عورة الأمة إذا زوجت، وحددت فيما بين السرة والركبة.
وجاءت رواية أخرى من طريق النضر بن شميل عن أبي حمزة الصيرفي وهو سوار بن داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: «وإذا زوج أحدكم عبده أو أمته أو أجيره، فلا تنظر الأمة إلى شيء من عورته، فإن ما تحت سرته إلى ركبته من العورة» رواه الدارقطني وهي عند البيهقي جميعها في سننه، انظر (2/320).
وهذه الرواية فيها تحديد العورة للسيد وهو الرجل بخلاف الرواية الأولى، مما يدل على اضطراب الراوي في ضبط هذه اللفظة ولا سيما الرواية الأخيرة فمدارها على أبي حمزة الصيرفي ومجمل أقوال الأئمة فيه أن فيه ضعفاً، فهذا الاضطراب منه، بل ذكر الدارقطني عنه أنه لا يتابع على رواياته، وقد رواها بواسطة محمد بن جحادة الثقة عن عمرو بن شعيب كما عند البيهقي (3235)، فهذه علة أخرى لروايته هذا الحديث، لذلك قال البيهقي رحمه الله كما في سننه الكبرى (2/320) بعد روايته لهذه الألفاظ: [وهذه الرواية إذا قرنت برواية الأوزاعي دلنا على أن المراد بالحديث نهي السيد عن النظر إلى عورتها إذا زوجها وأن عورة الأمة ما بين السرة والركبة و سائر طرق هذا الحديث يدل وبعضها ينص على أن المراد به نهي الأمة عن النظر إلى عورة السيد بعد ما زوجت أو نهي الخادم من العبد الأخير عن النظر إلى عورة السيد بعدما بلغنا النكاح فيكون الخبر وارداً في بيان مقدار العورة من الرجل لا في بيان مقدارها من الأمة أ.هـ كلامه رحمه الله.
وانظر: سنن البيهقي الأحاديث
(3237،3236،3235،3234،3233،3224،3223،3219).
كما أن هذا الحديث بألفاظه المختلفة لو صح فيه تحديد عورة الأمة، لا المرأة الحرة. والفرق في الاستتار بين الأمة والحرة لا يخفى، وهذا ثابت بالأدلة الصحيحة من سنته صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة رضي الله عنهم، مع العلم أن بعض أهل الحديث لم يثبت هذه الرواية ولم يعرج عليها في تحديد عورة الرجل.
وينظر كلام الإمام ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن (6/18).
ثالثاً: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: «تفتح لكم أرض العجم...» رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي عن عبد الرحمن بن رافع عن عبد الله بن عمرو به. وهذا لا يصح، ففيه الأفريقي وضعفه أشهر من أن يُعرف، وشيخه عبد الرحمن بن رافع مجهول. ولو صح فليس فيه رخصة إلا لذوات الحاجة من النساء، ولا يلزم من الدخول انكشاف العورات كما هو معلوم.
رابعاً: حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه مرفوعاً: «احذروا بيتاً يقال له الحمام..» رواه البزار (211-مختصر زوائده للحافظ ابن حجر) فقال: أخبرنا يوسف بن موسى أخبرنا يعلى بن عبيد أخبرنا سفيان الثوري عن ابن طاووس عن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه.
وظاهر هذا الإسناد الصحة ولذلك اغتر به بعض العلماء فصححه، ولكن الصواب فيه أنه مرسل كما رواه جمع من الحفاظ.
قال البزار رحمه الله: (رواه الناس عن طاووس مرسلاً، ولا نعلم أحداً وصله إلا يوسف عن يعلى عن الثوري) أ.هـ كلامه.
والذي يظهر أن الخطأ في وصله من يعلى بن عبيد روايه عن الثوري فهو وإن كان ثقة ففي روايته عن الثوري ضعف، وقد جاءت أحاديث أصح منه إسناداً تعارضه والذي قبله منها:
ما رواه أبو داود (2006) والترمذي (2803) من طريق أبي المليح الهذلي أن نساء من أهل حمص أو من أهل الشام دخلن على عائشة فقالت: أنتن اللاتي يدخلن نساءكن الحمامات سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها» وقد صحح هذا لحديث جمع من العلماء. وفي الباب أحاديث أخرى عن جمع من الصحابة منهم: عمر وأبي أيوب وجابر الأنصاريين وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم جميعاً انظر: مسند أحمد وسنن الترمذي وسنن النسائي ومستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان وغيرهم، وبعضها يشهد لبعض كما قال بعض أهل العلم.
مع أن الحافظ الحازمي رحمه الله قال في كتابه الاعتبار (187): (باب النهي عن دخول الحمام ثم الإذن فيه بعد ذلك.. ـ ثم قال في آخره ـ وأحاديث الحمام كلها معلولة ـ يعني المرفوعات ـ وإنما يصح فيها عن الصحابة رضي الله عنهم) أ.هـ كلامه،وقد ضعفها كذلك الحافظ عبد الحق الأشبيلي كما في الأحكام الوسطى له (1/244).
خامساً: ما جاء عن عمر رضي الله عنه فيما كتبه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه.
فهذا الأثر لا يصح:
فقد رواه عبد الرزاق (1134) عن ابن المبارك عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي ـ قال ابن الأعرابي ـ: وجدت في كتاب غيري عن قيس بن الحارث قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بلغني فذكره. ورواه عبد الرزاق أيضاً (1136) من طريق إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي عن قيس بن الحارث قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة فذكره.
ولكن رواه سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي عن أبيه عن الحارث بن قيس قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فذكره، فزاد فيه عن أبيه، وجعله من رواية الحارث بن قيس. ورواه سعيد بن منصور أيضاً عن عيسى بن يونس عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه... فذكره وانظر البيهقي رقم (13542). ورواه ابن جرير رحمه الله كذلك عن عيسى بن يونس بمثله. ففي رواية ابن المبارك عند عبد الرزاق وعيسى بن يونس عند سعيد بن منصور وابن جرير عن عبادة بن نسي مرسلاً. وزاد إسماعيل بن عياش كما في رواية سعيد بن منصور عن عبادة عن أبيه عن الحارث بن قيس، ونسي والد عبادة مجهول. وانظر: مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن كثير رحمه الله (2/601) و سنن البيهقي (7/153)وأسقطه في رواية عبد الرزاق فيكون الأثر منقطعاً بين عبادة وقيس بن الحارث، كما أنه جعله من رواية الحارث بن قيس بدل قيس بن الحارث.
وهذا كله يدل على اضطراب إسماعيل في روايته لهذا الأثر. بينما الأثبات رووه عن عبادة مرسلاً، زد على ذلك الاختلاف الكثير في المتن وورود تلك اللفظة المنكرة في بعض رواياته وهي: (فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر ـ وفي رواية أن يرى ـ عورتها إلا أهل ملتها).
والجميع ـ المانعون والمجيزون ـ متفقون على تحريم كشف العورة وتحريم النظر إليها. فإن كان المقصود ما فوق السرة فهذا يؤيد قول من قال بأنه عورة وإن كان المقصود ما بين السرة والركبة فالجميع على اتفاق إلا من شذ بأنه لا يحل إظهاره والنظر إليه إلا لزوج أو سيد فكيف يجوز للمرأة أن تطلع النساء على عورتها إذا كان المقصود المعنى الثاني وعلى كل حال فهذه اللفظة لا تثبت.
وقد صح عن عمر رضي الله عنه خلاف ذلك:
قال عبد الرزاق (1133): عن ابن جريح أخبرني سليمان بن موسى عن زياد بن جارية حدثه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان يكتب إلى الآفاق: (لا يدخلن امرأة مسلمة الحمام إلا من سقم وعلموا نساءكم سورة النور) ففي هذا الأثر إباحة دخوله للمسلمة المريضة لحاجة الاستشفاء، والتأكيد على الاستتار بقوله رضي الله عنه: وعلموا نساءكم سورة النور.
* باحث شرعي