لبنان في عيني ابن السابعة.. يحكيها ابن الأربعين
الاثنين / 06 / رجب / 1427 هـ الاثنين 31 يوليو 2006 19:45
وليد احمد فتيحي
كلما أغمضت عيني واطلقت العنان لخيالي ليعود بي إلى أجمل ذكريات حياتي، يأبى خيالي إلا أن يعود بي إلى هناك..
إلى ابن السابعة من عمره يسير في شارع بحمدون «الجبل» وهو يحمل في يده نصف ليرة «ربعين» يضعهما في جيبه بعناية ويبقي يده في جيبه خشية أن يسقطا منه.
أما الربع الأول.. فيشتري به قالبا من الحلوى، وأما الربع الثاني فيذهب به كعادته من كل صباح إلى مكتبة صغيرة اعتاد ارتيادها منذ تعلم القراءة فيشتري قصة ويذهب ليقرأها ثم يعود بها مرة أخرى إلى المكتبة بعد الظهر ليستبدلها بأخرى على علم من صاحب المكتبة الذي أعجبه حب ابن السابعة للقراءة فكان يكرمه كل يوم باستبدال قصة الصباح بقصة أخرى على شريطة ان يعيدها بحالتها التي اخذها.
وبقي هذا الاتفاق بين صاحب المكتبة وابن السابعة لعدة سنوات في كل صيف يقضي فيه الصبي اجازته.
وما كان ابن السابعة يستطيع آنذاك ان يجيب على سؤاله المحير.. لماذا كان يفرح صاحب المكتبة كلما عاد الصبي لاستبدال قصة مكان قصة فيقرأ بذلك قصتين بثمن واحدة؟.
ولم يكن ابن السابعة يدرك آنذاك ان متعته في الأخذ بلا مقابل ليست أعظم صور السعادة في الدنيا بل ان امتع منها ما يكمن مقابلها في العطاء نفسه، لم يكن يدرك ان السرور الذي كان يراه صاحب المكتبة على وجه ابن السابعة في كل مرة يكرمه بقصة أخرى يفوق فرحته بأن تقع ربع ليرة ثانية في يده كل يوم ثمن القصة الاضافية.
وتحول الحرب بين الصبي وبين قضاء الاجازة هناك.
وتمر الأيام سراعا.. وتتسارع بسرعتها الاعوام ويغمض ابن السابعة عينيه ليجد نفسه ابن الاربعين ثلاثة عقود تمر.. يكبر ابن السابعة ويكبر معه الحنين ليعود به الى هناك.
فاصطحب هذه المرة زوجته وذهب معها الى هناك.. ليسير بعد ثلاثين عاما في نفس الشارع الذي سار فيه وهو ابن السابعة ثم ابن الثامنة فالتاسعة فالعاشرة وما بين ذلك وبعده مما يذكر ومما لا يذكر.. سار وهو يبحث عما يحيي به ذكريات أيام طفولته الجميلة، اما الشارع الرئيسي فوجده اصغر بكثير مما قد رسمه له الصبي الطفل في مخيلته، لكن الذكريات تداعت مع خطواته فيه تداعب وجدانه وتستثير عواطفه. وبدأ يحكي لزوجته فيقول لها.. هنا وقفت.. وهنا أكلت.. وهنا لعبت.. وهنا.. وهنا.. وهنا.. هنا كان فندق «الساحة» وهنا فندق «الكرمة» وهنا دور السينما وهنا فندق «لامرتين».
تذكر مقهى الشامات فقصده فوجده تغير تذكر المسجد بجوار فندق «لامرتين» في آخر الشارع فوجده هناك.. دخل الفندق فوجد فيه ما يكفي ليذكره بعشرات الذكريات.. تغير الكثير ولكن مازالت هنالك احجار قديمة واعمدة ومعالم لم تتغير ينظر اليها ابن الاربعين يذكرها بأم عينها فيقترب منها ويلمسها يتعرف عليها ويذكرها بنفسه لعلها تتعرف عليه هي فتتذكره.
وفجأة وجد نفسه امام المكتبة.. نعم تلك المكتبة التي كان يرتادها قبل ثلاثة عقود.. فيدخلها ليجد شابا يافعا في مقتبل عمره فيسأله كم عمر هذه المكتبة؟ فيجيبه بأن عمرها يناهز الاربعين..
ثم سأله هل بيعت؟.. فأجابه بأن صاحبها هو صاحبها لم يتغير فسأله من أنت؟.. فقال انا ابن صاحب المكتبة، فسأله وأين ابوك قال ابي سيأتي عما قريب.
وجاء الشيخ فلم أسأله وانما بدأت اشتري منه مجموعة كبيرة من الكتب.. العشرات منها وبدأنا نتجاذب اطراف الحديث فيخرج لي كتبا قيمة ويحثني ان اقرأ فيها.. وأنا أتفحصه لعلي اتأكد إن كان هو.. ذاك الرجل الذي كان يكرمني في صباي بقصة اضافية كل يوم.
وبعد بضع ساعات قضيناها في هذه المكتبة الصغيرة بحجمها، الكبيرة بروح صاحبها وما تحتويه من كتب منتقاة بعناية فائقة، طلبت منه ان يجمع لي الحساب.. ففعل.
وكانت الفاتورة كبيرة ففتحت محفظتي واخرجت منها بطاقة الائتمان فقال لي يا بني لا أتعامل مع هذه البطاقات، ولم تكن نقودي ونقود زوجتي تكفي فأخذت انقص من الكتب لأعيدها أوأحجزها ليوم ثان فسألني ماذا تفعل؟.. فقلت إنما اشتري منك نصفها على ان تحجز لي النصف الآخر حين اعود من الغد فأجابني بل تأخذها كلها وتدفع لي في الغد أو بعد الغد او متى شئت، فقلت وكيف تضمن انني اعود لك بالمال؟.. فأجابني لم تنعدم الثقة بين الناس يا بني.
فقلت في نفسي.. والله أكاد أجزم انه هو ذاك الرجل الذي كان يكرمني وانا صبي.. وهو الذي رآه ابن السابعة الذي يرى بعين الفطرة والصفاء فلا تخدعه الصور ولا تغره المظاهر وان النفس التي رآها ابن السابعة في ذاك الرجل هي نفس اقوى من ان تغيرها الحروب أو تبدلها الظروف.
فقلت له هل تذكر قبل ثلاثين عاما صبيا كان يأتيك كل صيف ويشتري منك قصة ويستبدلها بأخرى آخر النهار فقال نعم.. كان ذلك قبل الحرب فقلت له انا هو.. والآن اذكرك انت هو.. تتغير الوجوه وتتحول الاشكال والصور ولكن الروح لا تخطئ الروح.
فأخذ بيدي وأخرج لي ولزوجتي صندوقا قديما فيه ليرات قديمة وقال لي هذه ليرات قديمة ليس لها قيمة الا بما تحمله من ذكريات ويوم كهذا تثقلها الذكريات فتكون غالية ثمينة، ثم أهداني وزوجتي ليراته القديمة.
نعم.. ان اشرس حروب الارض قد تنجح في إزالة اعظم معالم بنيت من حجر ولكنها تعجز في أن تغير اعظم المعاني في ابسط البشر.
فعمار القلوب بعيد كل البعد عن أيدي الاعداء المخربين، لا يصل اليه عدو وتعجز دون خرابه اعظم قوى الارض.
ذكريات عامرة في قلوبنا وبصمات ستبقى على مر الزمن لشعب مضياف كريم ذي تراث وتاريخ عريق شعب فكر ومعرفة وثقافة.. شعب متقن مُبدع يتمتع بذوق رفيع في شتى مجالات الحياة، وستبنى لبنان في كل مرة يهدمها الاعداء الحاقدون، ستبنى في كل مرة أسرع من سابقتها وافضل واجمل.
وفي كل مكان سقط منه حجر سيبنى عوضا عنه أكثر من حجر.. ليشهد التاريخ ان العمار الحقيقي هو في عمار المحبين لهذه الارض من البشر.. وإن بدا للجُهال أنهم يهدمون لبنان بهدمهم لأحجار لبنان.. نعم.. إنما تُعمر الأرض بعمار قلوب المحبين لها من البشر.. وإن سقط الحجر وراء الحجر.
إلى ابن السابعة من عمره يسير في شارع بحمدون «الجبل» وهو يحمل في يده نصف ليرة «ربعين» يضعهما في جيبه بعناية ويبقي يده في جيبه خشية أن يسقطا منه.
أما الربع الأول.. فيشتري به قالبا من الحلوى، وأما الربع الثاني فيذهب به كعادته من كل صباح إلى مكتبة صغيرة اعتاد ارتيادها منذ تعلم القراءة فيشتري قصة ويذهب ليقرأها ثم يعود بها مرة أخرى إلى المكتبة بعد الظهر ليستبدلها بأخرى على علم من صاحب المكتبة الذي أعجبه حب ابن السابعة للقراءة فكان يكرمه كل يوم باستبدال قصة الصباح بقصة أخرى على شريطة ان يعيدها بحالتها التي اخذها.
وبقي هذا الاتفاق بين صاحب المكتبة وابن السابعة لعدة سنوات في كل صيف يقضي فيه الصبي اجازته.
وما كان ابن السابعة يستطيع آنذاك ان يجيب على سؤاله المحير.. لماذا كان يفرح صاحب المكتبة كلما عاد الصبي لاستبدال قصة مكان قصة فيقرأ بذلك قصتين بثمن واحدة؟.
ولم يكن ابن السابعة يدرك آنذاك ان متعته في الأخذ بلا مقابل ليست أعظم صور السعادة في الدنيا بل ان امتع منها ما يكمن مقابلها في العطاء نفسه، لم يكن يدرك ان السرور الذي كان يراه صاحب المكتبة على وجه ابن السابعة في كل مرة يكرمه بقصة أخرى يفوق فرحته بأن تقع ربع ليرة ثانية في يده كل يوم ثمن القصة الاضافية.
وتحول الحرب بين الصبي وبين قضاء الاجازة هناك.
وتمر الأيام سراعا.. وتتسارع بسرعتها الاعوام ويغمض ابن السابعة عينيه ليجد نفسه ابن الاربعين ثلاثة عقود تمر.. يكبر ابن السابعة ويكبر معه الحنين ليعود به الى هناك.
فاصطحب هذه المرة زوجته وذهب معها الى هناك.. ليسير بعد ثلاثين عاما في نفس الشارع الذي سار فيه وهو ابن السابعة ثم ابن الثامنة فالتاسعة فالعاشرة وما بين ذلك وبعده مما يذكر ومما لا يذكر.. سار وهو يبحث عما يحيي به ذكريات أيام طفولته الجميلة، اما الشارع الرئيسي فوجده اصغر بكثير مما قد رسمه له الصبي الطفل في مخيلته، لكن الذكريات تداعت مع خطواته فيه تداعب وجدانه وتستثير عواطفه. وبدأ يحكي لزوجته فيقول لها.. هنا وقفت.. وهنا أكلت.. وهنا لعبت.. وهنا.. وهنا.. وهنا.. هنا كان فندق «الساحة» وهنا فندق «الكرمة» وهنا دور السينما وهنا فندق «لامرتين».
تذكر مقهى الشامات فقصده فوجده تغير تذكر المسجد بجوار فندق «لامرتين» في آخر الشارع فوجده هناك.. دخل الفندق فوجد فيه ما يكفي ليذكره بعشرات الذكريات.. تغير الكثير ولكن مازالت هنالك احجار قديمة واعمدة ومعالم لم تتغير ينظر اليها ابن الاربعين يذكرها بأم عينها فيقترب منها ويلمسها يتعرف عليها ويذكرها بنفسه لعلها تتعرف عليه هي فتتذكره.
وفجأة وجد نفسه امام المكتبة.. نعم تلك المكتبة التي كان يرتادها قبل ثلاثة عقود.. فيدخلها ليجد شابا يافعا في مقتبل عمره فيسأله كم عمر هذه المكتبة؟ فيجيبه بأن عمرها يناهز الاربعين..
ثم سأله هل بيعت؟.. فأجابه بأن صاحبها هو صاحبها لم يتغير فسأله من أنت؟.. فقال انا ابن صاحب المكتبة، فسأله وأين ابوك قال ابي سيأتي عما قريب.
وجاء الشيخ فلم أسأله وانما بدأت اشتري منه مجموعة كبيرة من الكتب.. العشرات منها وبدأنا نتجاذب اطراف الحديث فيخرج لي كتبا قيمة ويحثني ان اقرأ فيها.. وأنا أتفحصه لعلي اتأكد إن كان هو.. ذاك الرجل الذي كان يكرمني في صباي بقصة اضافية كل يوم.
وبعد بضع ساعات قضيناها في هذه المكتبة الصغيرة بحجمها، الكبيرة بروح صاحبها وما تحتويه من كتب منتقاة بعناية فائقة، طلبت منه ان يجمع لي الحساب.. ففعل.
وكانت الفاتورة كبيرة ففتحت محفظتي واخرجت منها بطاقة الائتمان فقال لي يا بني لا أتعامل مع هذه البطاقات، ولم تكن نقودي ونقود زوجتي تكفي فأخذت انقص من الكتب لأعيدها أوأحجزها ليوم ثان فسألني ماذا تفعل؟.. فقلت إنما اشتري منك نصفها على ان تحجز لي النصف الآخر حين اعود من الغد فأجابني بل تأخذها كلها وتدفع لي في الغد أو بعد الغد او متى شئت، فقلت وكيف تضمن انني اعود لك بالمال؟.. فأجابني لم تنعدم الثقة بين الناس يا بني.
فقلت في نفسي.. والله أكاد أجزم انه هو ذاك الرجل الذي كان يكرمني وانا صبي.. وهو الذي رآه ابن السابعة الذي يرى بعين الفطرة والصفاء فلا تخدعه الصور ولا تغره المظاهر وان النفس التي رآها ابن السابعة في ذاك الرجل هي نفس اقوى من ان تغيرها الحروب أو تبدلها الظروف.
فقلت له هل تذكر قبل ثلاثين عاما صبيا كان يأتيك كل صيف ويشتري منك قصة ويستبدلها بأخرى آخر النهار فقال نعم.. كان ذلك قبل الحرب فقلت له انا هو.. والآن اذكرك انت هو.. تتغير الوجوه وتتحول الاشكال والصور ولكن الروح لا تخطئ الروح.
فأخذ بيدي وأخرج لي ولزوجتي صندوقا قديما فيه ليرات قديمة وقال لي هذه ليرات قديمة ليس لها قيمة الا بما تحمله من ذكريات ويوم كهذا تثقلها الذكريات فتكون غالية ثمينة، ثم أهداني وزوجتي ليراته القديمة.
نعم.. ان اشرس حروب الارض قد تنجح في إزالة اعظم معالم بنيت من حجر ولكنها تعجز في أن تغير اعظم المعاني في ابسط البشر.
فعمار القلوب بعيد كل البعد عن أيدي الاعداء المخربين، لا يصل اليه عدو وتعجز دون خرابه اعظم قوى الارض.
ذكريات عامرة في قلوبنا وبصمات ستبقى على مر الزمن لشعب مضياف كريم ذي تراث وتاريخ عريق شعب فكر ومعرفة وثقافة.. شعب متقن مُبدع يتمتع بذوق رفيع في شتى مجالات الحياة، وستبنى لبنان في كل مرة يهدمها الاعداء الحاقدون، ستبنى في كل مرة أسرع من سابقتها وافضل واجمل.
وفي كل مكان سقط منه حجر سيبنى عوضا عنه أكثر من حجر.. ليشهد التاريخ ان العمار الحقيقي هو في عمار المحبين لهذه الارض من البشر.. وإن بدا للجُهال أنهم يهدمون لبنان بهدمهم لأحجار لبنان.. نعم.. إنما تُعمر الأرض بعمار قلوب المحبين لها من البشر.. وإن سقط الحجر وراء الحجر.