المركب الإيراني: هل بدأ يغرق؟

عبدالله بن بجاد العتيبي

نيران المنطقة لم تزل مشتعلة، والخصوم الكبار لم يفقدوا تأهبهم، والمتصارعون الصغار لم يزالوا في خنادقهم الضيقة وكهوفهم المظلمة، إنهم يفتشون عن الصراع دائما وقد استمرأوا العيش في الكهوف.
لإيران طموح كبير في المنطقة يعبر عنه مشروعها الكبير الذي لا يبتدئ بالعراق إلا لينتهي في اليمن، ولا ينطلق من أفغانستان إلا ليلقي رحاله في الصومال، وفوق هذا وذاك يتنقل متبخترا بين أدغال أفريقيا وأواسط آسيا.
العقوبات في وجه إيران تزداد قسوة يوما بعد يوم، والتحديات تتوالى من بين يديها ومن خلفها، واللاعبون الدوليون يزدادون شدة، واللاعبون الإقليميون يتكاثرون أثرا وحنكة وكياسة.
بالأمس كان خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله في جولة عربية وصفها جميع المراقبين بالتاريخية، بدءا بمصر فسوريا فلبنان فالأردن، وقد أخذ معه في الطائرة الرئيس السوري بشار الأسد متجهين للبنان سويا ومعا، بينما كان الفرقاء اللبنانيون يحسبون أن هذا لا يمكن أن يحدث، لكنه حدث بإرادة للإصلاح وجموح للتوافق.
يعلم الملك عبد الله أن التحالف الدولي القوي الذي يقف معه ومع رؤيته، يجب أن يدعمه تحالف إقليمي لا يقل قوة ولا تماسكا، وهو يسعى بكياسة وعقلٍ للم الشمل العربي.
لم يهبط الزعيمان في لبنان فجأة ودون تقدير بل هبطا بعد توافق في الرؤية الواسعة لهذا البلد المظلوم والمحطم جراء اختلافات بعض بنيه عليه، ونزاعاتهم الحارقة حينا، والمتفجرة أحيانا، والتاريخ يشهد أن شجرة أرز لبنان لم تزل أطرافها تحترق وتتقطع بناء على خلافات صغيرة هنا وأخرى كبيرة هناك.
ثمة حقائق في لبنان لا يمكن تجاهلها من أي سياسي أيا كانت رؤيته وتوجهاته، من أهمها في هذه المرحلة المحكمة الدولية للتحقيق في اغتيال رفيق الحريري، فهي محكمة دولية تكتسب مشروعيتها من التزامها الكامل بالقوانين الدولية، ولا مجال فيها للمساومة فضلا عن المراهنة، فشرعتها القانون وقضاتها منصاعون له، وتبقى الأدلة الجنائية رائدها الوحيد، بعيدا عن كل محاولات التسيس، وهي بناء على بنيتها الأساسية والدعم الدولي لها ستمضي في طريقها بغض النظر عن مواطن القوة والضعف في لبنان، فذلك واجبها وستؤديه باحترافية تجدر بها، وإلا فسيخسر قضاتها مكانتهم الدولية واحترامهم الذاتي لأنفسهم.
نعم، يعيش حزب الله مأزقا يهدد وجوده، فهذه المحكمة تعني بالنسبة له أن يكون أو لا يكون، وخياراته اليوم ستحكم مستقبله، وقراراته ستؤثر على تاريخه، وشعارات المقاومة لن تجدي نفعا في مواجهة العالم، وعنتريات الداخل لن يكون لها أثر في مواجهة الواقع العالمي الجديد.
إيران، وهي الداعم القوي لحزب الله تعيش أزمة لا تقل عنه خطورة، فهي اليوم في مواجهة العالم أجمع، روسيا حليفتها الرئيسة بدأت في التذمر منها، وأخذت مواقف تبعدها عنها، ولما ضاقت السبل بقادتها السياسيين، اختاروا اللجوء للخرافة للتجييش المحلي، عبر نظريات المهدي المنتظر التي يتبناها سياسيا رئيس الدولة أحمدي نجاد بخلفيته المعروفة مع جماعة «الحجتية» التي تمركز فكرة قرب خروج المهدي المنتظر في فكرها، وصرح بهذه الخرافة عسكريا رئيس القوات البرية وأيدها دينيا رئيس مجلس النواب وغيرهم من القيادات العليا والمتوسطة في إيران.
التاريخ يقول لقارئه إن الانحياز للخرافة يعبر عن عجز عن التأثير في الواقع، وأن اعتمادها أساسا لتجييش الشعب يعني إفلاسا في القدرة على خلق حلولٍ عملية، وهذا ما يجري في إيران اليوم، حيث لم يبق في يدها أوراق سياسية سوى التلويح بالمهدي المنتظر وقرب خروجه من كهفه المزعوم، ليؤيدي أدوارا سياسية عجز المسؤولون السياسيون عن أدائها، وفشلوا في بعضها فشلا ذريعا، فليأتوا بالمهدي المنتظر إذاً ليلقوا على أكتافه مئونة خيباتهم وسوء تقديرهم.
كشاهد على هذا التخبط الإيراني، فإنه يمكننا رصد بعض المثقفين العرب الذين ارتموا خارج القارب الإيراني قبل أن يغرق، من مثل المثقف الكويتي المعروف عبدالله النفيسي الذي عبر عن موقفه الجديد بترك المركب الإيراني عبر محاضرات ومقالات منشورة تدل على رأي جديد لديه وحاسة سياسية أملت عليه موقفه الجديد.
لا ينبغي لإيران أن تغتر كثيرا بتاريخها العريق، المليء بالذكاء والدهاء، والقوة والمضاء، لأن الديبلوماسية الإيرانية اليوم لم تزل تتأرجح بين الذكاء والغباء، بين ذكاء التخطيط السابق، وغباء القيادة الحالية.
إن العقوبات الدولية ليست هزلا، وإن تأثيرها على إيران رغم المكابرات السياسية الإيرانية شديد الوقع، وهذه العقوبات الدولية تكتسب كل يوم أنصارا جددا، ومؤيدين لم تكن إيران تحسب لهم حسابا، بالإضافة إلى أن القيادة الإيرانية الحالية تسعى جهدها لاكتساب الأعداء لا لاصطناع الأصدقاء، والمشروع النووي قد أعشاها عن كل ما يدور حولها من تغيرات وتحولات.
داخليا، تعيش إيران أزمة حقيقية حول المشروعية السياسية للدولة نفسها، أزمة لم تشهد إيران لها مثيلا منذ قيام الثورة، فالمعارضة الداخلية للنظام لم تكن يوما أقوى منها في هذه المرحلة، ومؤيدوها يزدادون يوما بعد يوم، ومواجهتها بالقمع وعنف الدولة وإن أثر فيها قليلا لكنه لا يعدو أن يكون مسكنا للألم لا معالجا للمرض، وسرعان ما تعود هذه المشاعر المقموعة إلى الواجهة عند أول فرصة سانحة، ومن أخطر الأشياء على استقرار الدول هو أن يكون الشعب الغاضب كجمر تحت الرماد لا يحتاج لأكثر من نسمة هواء حتى يعود متقدا وحارقا.
وهكذا في باقي الملفات لم تزل إيران تخسر خارجيا وداخليا نتيجة تعنتها السياسي، وانسداد الأفق أمام صانع القرار فيها، فكيف إذا أعشته الخرافة وأعماه وهم القوة والنفوذ، حينئذ تكون فرصه في اتخاذ القرارت الصائبة ضئيلة وقدرته على الحراك والتغيير محدودة، ما يشي بأزمة حقيقية تتلبسه فلا يجد منها فكاكا ولا يستطيع منها خلاصا.
لا يجب أن يفهم من هذا المقال أن إيران قد انتهت كلاعب قويٍ في المنطقة، هذا غير مقصود أبدا، فهي لم تزل دولة قوية وذات تأثير واضح ومتشعب، ولكن التساؤل هنا ينصب على أن منحنى قوتها قد بدأ بالانحدار بعد تصاعده وتعاظمه في السنوات الأخيرة، بمعنى أنها اليوم أصبحت أضعف منها في سنوات قليلة مضت، وإن استمرت في هذا الطريق فإن خسائرها ستزداد يوما بعد يوم، ما سيؤثر حتما على قوتها ومكانتها.
حين تبدأ المراكب في الغرق يكثر القافزون منها، والمركب الإيراني يبدو أنه قد بدأ يغرق، ونحن نقرأ هذه الأيام بعض التصريحات المنسوبة لبعض المحسوبين على إيران في العراق مثلا يتذمرون فيها من الموقف الإيراني المتعنت ويتزحزحون شيئا ما عن المركب الإيراني، وإن استمر الحال بهذه الطريقة فسوف يزداد القافزون من المركب الإيراني قبل أن يغرقوا معه.
Bjad33@gmail.com

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة