«ما من أثر» قصص قصيرة واضحة الأثر وراعبة

عواض العصيمي

لعواض شاهر العصيمي دروب كتابية عديدة، منها النقد الأدبي، ومنها كتابة الشعر الشعبي، ومنها التأملات الفكرية والوجدانيات، ومنها القصة القصيرة التي باتت أكثر مشاريعه جسارة وحسما رغم وضوح الموهبة والنبوغ في كل الدروب التي سلكها العصيمي متكئا على موهبة باتعة وثقافة عالية وروح متسامحة ورحابة فكرية وحساسية شديدة الرهافة وفهم متواصل لطبيعة الدروب.
انتهيت للتو من قراءة متأخرة لمجموعته القصصية «مامن أثر»، شيء لم أتوقعه رغم كل إعجابي بمهارات العصيمي الأدبية، لكنه يأتي هذه المرة مشحونا بطاقة خلابة بعينين ساخرتين وأصابع متمرسة على العزف، أحسست أنني أمام آلة بيانو لبس عازفها طاقية الإخفاء أو لعله أوصاها بأن تعيد على مسامع المارين بها ما تركته الأصابع من العزف قبل أن يرحل. مجموعة قصصية متفوقة قادرة على الهدم والبنيان في اللحظة نفسها متمكنة من التقاط تفاصيل دقيقة ورسم نمنمات خلابة وآسرة مقيمة لأحزان إنسانها حفلا ميتافيزيقيا راعبا وآخر تنكريا مدهشا برهافة شاعرية تتفهم الكيفية والكمية اللازمة لدخول الشعر في القصة القصيرة دخولا يزيد في ثرائها دون لبس في المفاهيم: لا شيء يكاد يكون واضحا في جميع قصص المجموعة رغم أنه عنوان خاص بواحدة من هذه القصص، لكن كل قصص المجموعة محاطة بدخان خفيف قل: بخار ماء أو غبار تجمد على عرق وحركته عروق تقترب من المعنى أكثر شخصيا، لا أدري كيف مرت هذه المجموعة القصصية المدهشة دون فوانيس نقد لائقة، ويحزنني حين أفكر في أنه قد يكون من أسباب ذلك ابتعاد قصص هذه المجموعة عن القشور والطنطنة الجسدية أو العقائدية أو السياسية، واعتناؤها بالعميق المتجذر الأبدي في الروح والمادة والحركة، والتزامها التام بأدب القصة القصيرة البريء من دندشات المانشيت الصحفي وخرخشات الفرجة والتهريج.
خمس عشرة قصة قصيرة متعوب عليها منحوتة نحتا بدت دون زوائد من أي نوع ومخطط لحركتها (الشخصيات والعبارة) بحرفية عالية ومهارة تتيح لنا قراءة أنفسنا في لحظات خاطفة منها عبر الآخر الذي يرعبنا بعد القراءة، كم هو مهمل بالنسبة لنا، بل جميع قصص المجموعة أنجزت بتمكن فني اتسم بالعمق والتكثيف، لكنني وبرغم صعوبـــة الانتخاب وتأكد إجحافه إلا أنني أنتخب: (المحفظة) و(عدوى) و(كنت تصغين فحسب) و(حالات خمس لشجـرة ليمــون في حـقــل فارغ) و(فضول) وبالطبع (صانع الأبواب) التي وجدتني أخط عليها عنوانا آخر: (الفنان)!