تأملات في سيرة كاتب بسيط.. واستثنائي!

عبدالعزيز السليمان (*)

نتذكر العظمة عند ذكرى العظماء،تتجسد بأشكالهم ويتساقط الأذكياء والبارزون من حولهم كما يتساقط الأطفال من حول العربة بلسعات الكرباج راضين بالألم سعيدين بفعلهم ذلك!
تذكرت ذلك، وأتذكره دائما، كلما نشر حديث أو لقاء أو خبر عن الأديب والروائي الكبير نجيب محفوظ، مالىء الدنيا وشاغل الناس، والمعين الذي لا ينضب بأعماله الثرية بعددها وأفكارها (49 قصة ورواية). والحديث عن الكاتب، بلا مبالغة، لا تكفيه مقالة، او ملف في دورية، او كتب لأنه مدرسة ومؤسسة، تسعى وتسعد الملاحق الأدبية والثقافية لاستقطابه ونشر ما يخصه مهما صغرت قيمته.. لماذا؟ لان الكاتب ظاهرة ثقافية.
تكمن عظمة هذا الكاتب عندما نتأمل حياته الشخصية القائمة على البساطة والهدوء وممارسة الحياة بنفس انسان مفعم بالانسانية وبكل نوازع النفس من فرح وترح وتطلع وخنوع، لا كشخصية شهيرة تتحرك بملائكية معجزة.. يحب الناس والبسطاء ويحترمهم، يعترف بجهله، لا يتسرع الى الشهرة، راض بما قدر له من التجاهل سنوات.
هو ادرك سر الانسان وقدراته اللامحدودة، فاعتمد على مقدرته الذاتية وجهده الشخصي ليرقى سلم العظمة، من دون مساندة من احد من معاناته في بداية النشر الى عقبات السياسة بتحايله عليها بالتورية، الى مرضه وانقطاعه عن الكتابة اثناء فترة الصيف وغيرها مما يعتور الانسان ذي الهمة العالية والجلد العجيب الذي يستغرب على الانسان.
استطاع نجيب محفوظ ان يمتص كل طاقاته الجسدية والفكرية، ولم يوفر شيئا البتة، لتصب تلك الامكانيات في قالب القصة والرواية، وذلك عندما قرر التوجه الى الادب بعدما كان مشتغلا بالفلسفة، وهذا قرار احتراف ادرك معناه فأخلص له فاصبح من القلة في ادبنا الحديث ابدع وتصدر بجهده الذاتي.
في الحقيقة لا ازال وانا اكتب تلك السطور، متخوفا من الكتابة، فقد كتبت عنه انهاراً من الاسطر، لكني اتحدث عنه كخليجي عرف عظمته واستمد من مشروعه فكرة حقيقة الانسان وعالمه من موقع ارض الكنانة، وعرفه كرجل متفجر الطاقات، بل استطاع ان يستمد من مساوئه وعقباته مصالح لمشروعه الكتابي كالكيميائي الذي يحيل المادة الى متفجرات تدمر ما حولها لتقيم على انقاضها الجديد.
قد تكون الظروف سببا لصقل المبدع، لكن العبقري ينهض بإبداعه والظروف ضده فكاتبنا الخالد نجيب محفوظ قاوم العقبات واستخدمها على نهج حكمة كونفوشيوس (اجعل من مساوئك محاسن) ومن اشد العقبات - المحاسن - التي عاناها واستفاد منها كاتبنا الكبير الثراء الثقافي والاجتماعي بابعادهما، وبالرغم من امكانية توفر الثقافة البحتة لنا كخليجيين الا ان الثراء الاجتماعي في مصر نسيج وحده، بين الدول العربية، تلحظ كل عنصر مهما دق او كبر الا وله مكانه البارز في روايات «الكاتب» وكل تفاصيل الحركة الحياتية في مصر تجدها بارزة في اعماله من الظواهر المعاينة الى العوالم الخفية التي تنطق بذاتها وتستنطقها الجمادات، وذلك لخصوبة وثراء وسرعة وتجدد حركة الحياة في مصر بدءا من المرأة التي تكاد تكون وقود مصر الفني، بل وقود عمق المجتمع، وهي الادلة على ما يعتور الفكر من تنوع، وما يتلبس الانسان من نوازع نفسية ووجدانية، وبالتالي حراك ثقافي تلتقطه ريشة الفن المبدعة ليتجسد تمثالا خالدا يسهم في تذوق لذة الجمال، ثم الاحتجاج المتكرر من الانسان على وضعه النفسي والاخلاقي والوجداني والاجتماعي.

(*) كاتب سعودي