الأصوليات الغربية..الأصولية الكاثوليكية

نجيب الخنيزي

لدى التطرق إلى مفهومي الأصولية والأصولي اليوم، غالبا ما يتجه التفكير والمعنى والتحديد إلى الإسلام، فيقال أصولية إسلامية وأصولي مسلم، وفي العادة يجري إضفاء صفات وماهية ثابتة لهذه الأصولية، على غرار ما تطرق إليه البابا بينيدكت السادس عشر في محاضرته عن الخصائص والسمات الثاوية والثابتة في الإسلام، والتي حددها في غياب العقلانية والتسامح إزاء الآخر، والاستناد إلى العنف وحد السيف لفرض العقيدة الإسلامية على الشعوب الأخرى. غير أن السياق التاريخي والثقافي لهذا المصطلح ودلالاته المفهومية ارتبط قبل كل شيء بالغرب المسيحي وبالكاثوليكية على وجه التحديد، ففي البدء كانت الأصولية الغربية (المركزية) التي أثارت وحفزت أصوليات الأطراف لاحقا. استخدمت كلمة أصولية كمصطلح أو مفهوم لأول مرة في اللغة والمعاجم في قاموس لاروس الفرنسي الصغير (1966) حيث عرف الأصولية تعريفا عاما هو «موقف أولئك الذين يرفضون تكييف عقيدة مع الظروف الجديدة» إما قاموس لاروس (1979) للجيب فيطبقها على الكاثوليكية وحدها «استعداد فكري لدى بعض الكاثوليكيين الذين يكرهون التكيف مع ظروف الحياة الحديثة» وفي سنة 1984 ظهر قاموس لاروس الكبير (12 جزءا) الذي وسع هذا المفهوم ليكون «داخل حركة دينية (الأصولية) موقف جمود وتصلب معارض لكل نمو أو لكل تطور» غير أن الأمثلة التي يستشهد بها كانت الأصولية الكاثوليكية وقد حدد روجيه غارودي في كتابه «الأصوليات المعاصرة» المكونات الاساسية للأصولية بوجه عام والمتمثلة في:
أولا : الجمودية ورفض التكيف «جمود معارض لكل نمو ولكل تطور».
ثانيا : العودة إلى الماضي والانتساب إلى التراث والمحافظة.
ثالثا : عدم التسامح والانغلاق والتحجر المذهبي «تصلب» و«كفاح»و «عناد»ويصل غارودي إلى وضع تعريفه للأصولية بأنها «تقوم على معتقد ديني اوسياسي مع الشكل الثقافي أو المؤسسي الذي تمكنت من ارتدائه في عصر سابق من تاريخها، وهكذا تعتقد أنها تمتلك حقيقة مطلقة وإنها تفرضها «ومن خلال التمسك الحرفي بهذه الأصول في نصوصها، والسعي إلى تطبيقها بصورة تعسفية على الواقع من خلال تجاهل الضرورات والمستجدات، والتعالي على الزمان والمكان، فإن الأصولية تشكل نسقاً في الرؤية والمنهج فيما يتعلق بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، يرنو إلى إخضاع الحاضر وتطويعه وفقا لمرجعية وقراءة ماضوية. وفي الواقع فان الأصولية كمفهوم لا ينحصر بالأديان فقط، بل هو يخترق الأديان والمعتقدات والأفكار القديمة والجديدة على حد سواء، فكما أن هناك أصوليات دينية (توحيدية) مسيحية وإسلامية ويهودية هناك أصوليات دينية (روحية وثقافية) مثالية مثل البوذية والهندوسية، وقد شهد الغرب ومن ثم بقية العالم أصوليات علموية (وضعية) وقوموية (فاشية) وماركسوية (ستالينية) وليبرالية (جديدة). كما أن هناك أصوليات مسيحية فرعية مثل الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية وأصوليات يهودية غربية وشرقية (اشكيناز وسفارديم) وصهيونية، وأصوليات اسلاموية (سنية وشيعية). غير أن منبع الأصولية المعاصرة هي الأصولية الغربية (المركزية) ومن ثم جاءت الأصوليات الأخرى ردا على أصولية الغرب ففي نوفمبر 1982 ومن قلعة سان – جاك دي كومبو ستل الذي كان حامل راية الحرب الصليبية ضد المغاربة أشار البابا الراحل يوحنا – بولس الثاني في خطبته إلى الرابطة الوثيقة التي لا فكاك منها بين الكنيسة وأوروبا والثقافة الأوروبية «أوروبا.. اكتشفي نفسك بنفسك كوني ذاتك اكتشفي أصولك! احيي جذورك! جددي هذه القيم الأصيلة التي جعلت تاريخك مجيدا وجعل حضورك خيرا في القارات الأخرى» هذا الخطاب المشبع بالمركزية الدينية والثقافية الأوربية، ولدور أوروبا الاستعماري والاستعبادي تحت يافطة «تمدين»و «تحديث»المجتمعات «البربرية والهمجية»في آسيا وإفريقيا والأمريكيتين (الشمالية والجنوبية) والتي من خلالها جرى فرض الهيمنة والسيطرة الاستعمارية المباشرة على شعوب تلك القارات، أما في العالم الجديد (الولايات المتحدة الأمريكية لاحقا) فقد تم تدمير كل المقومات الحيائية والبشرية والثقافية لأهل البلدالاصليين حيث أبيد حوالى 80% من الهنود الحمر على يد الآباء المؤسسين «الأطهار»بحجة نشر رسالة المسيح بينهم وإنهاء حالة البربرية التي يعيشونها. من المعروف أن الحركات الأصولية المسيحية المختلفة في العالم يوحدها ما يسمى «بجمعية الأصوليين المسيحيين الدولية»منذ أوائل القرن المنصرم ومن مظاهرها مناهضة الحداثة والعلم، ورفض النقد التاريخي للتفسير والكتاب المقدس (العهدين القديم والجديد) ومعارضة النقابات والاتجاهات اليسارية والتقدمية والليبرالية (بمعناها التاريخي الكلاسيكي وليس الجديد) والحركات النسائية، وصور الحياة المدنية، وبشرت ونافحت عن القيم والمصالح الرأسمالية في اشد تعبيراتها وتجلياتها قسوة وهمجية، وهي دعمت السياسات والاتجاهات المحافظة واليمينية في الغرب والأنظمة الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية واسيا وأفريقيا، ومقاومة أي توجه لإضعاف السلطة (المعنوية) السياسية والاجتماعية والفكرية للكنيسة الكاثوليكية، في عالم مبني على أسس الدولة الحديثة، ومعارضة فصل وسحب ما كان تحت سلطة الكنيسة من مؤسسات تعليمية وتربوية وثقافية واجتماعية، ومن مطالبها إعادة الكليات التي يدرس فيها القساوسة المتصلة بالخدمات الكنسية إلى إدارة الكنيسة وفصلها عن الجامعات الحكومية، كما تحارب الطلاق والإجهاض وتطالب بإعادة عقوبة الإعدام، وقد مثل الفاتيكان على الدوام المعقل الرئيسي للأصولية، غير أن الخلاف بين تلك الحركات الأصولية مع الكنيسة البابوية الرسمية وصل إلى حد الانفضاض عنها والخروج عليها إبان المجمع الكنسي (الفاتيكاني) الثاني في عهد البابا يوحنا الثالث والعشرين ,والقرارات الصادرة عنه في 1966 والتي كانت بمثابة ثورة من داخل الكنيسة ضد الأصولية والجمود والانعزال، حيث اعتمد المنهج النقدي التاريخي في سبيل تحديث الكنيسة لكي تنفتح على العالم، وتجيب على أسئلته وتصغي إلى صوت الفقراء والمظلومين، غير انه لم يكن هناك من صدى لهذه المدرسة الإصلاحية التي سرعان ما أجهضت، وجرى احتواؤها وتجاوزها من قبل حراس العقيدة في الفاتيكان، وتحديدا تحت قيادة الكاردينال المحافظ والأصولي (ألماني) جوزيف راتزينجر والذي أصبح لاحقا (حاليا) البابا بينيدكت السادس عشر (خلفا للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني) حيث كان يرأس «مجمع الكرسي الأعظم» والذي كان يدعى حتى سنة 1908 م «مجمع التفتيش الرومي»وهو الجهاز سيئ الصيت أثناء فترة محاكم التفتيش التي دامت قرونا في أوربا، وكان مسئولا عن حرق وإعدام وقتل وتنكيل وسجن الكثيرين في أوربا بتهمة الهرطقة والكفر والبدع والتي شملت المنشقين المسيحيين (اللوثريين والكالفيين) والعلماء والكتاب والمفكرين بل ورجال الدين الإصلاحيين. الحركة الإصلاحية الكاثوليكية ممثلة في المجمع الفاتيكاني (الثاني) التي أجهضت لم يكن لها صدى ملموس لدى الاكليروس المسيحي المهيمن، باستثناء أمريكا اللاتينية فيما عرف بلاهوت التحرير، الذي كان منطلقاً أساسا من وقائع تاريخية وتجارب ملموسة تتعلق بالفقر المدقع والتخلف الشنيع، والممارسات الاستبدادية للديكتاتوريات التابعة للولايات المتحدة الأمريكية التي سادت في أمريكا اللاتينية منذ الستينات وحتى أواسط الثمانينات. ويعود تاريخ ظهور لاهوت التحرير في أمريكا الجنوبية إلى عام 1970 على يد «المنحدرات الكنسية القاعدية»التي تجاوزت بشكل جذري مسيرة اللاهوت التقليدي، أو «لاهوت الهيمنة»، وانحازت إلى الفقراء ورفعت شعار الكفاح من اجل العدالة الاجتماعية والمساواة والتصدي للأنظمة العسكرية الديكتاتورية، وفضح دور الكنيسة الرسمية المتواطئ معها، وقد كتب القس اوسكار روميرو ابرز منظري حركة لاهوت التحرير والذي اغتاله النظام الديكتاتوري في السلفادور المدعوم من قبل المخابرات المركزية الامريكية «الخطيئة الحقيقية هي الظلم وعدم العدالة في توزيع الثروات.. الإيمان الذي يكتفي بحضور قداس الأحد ويرضى بالظلم طوال الأسبوع لا يقبله الله» وضمن مؤسسي لاهوت التحرير يبرز الآباء غوتييريز يسوعي من البيرو، وليناردو بوف فرنسيكاني من البرازيل والاكوريا يسوعي من السلفادور وسوغندو يسوعي من الارغواي الذين تجاوزوا الوعظ الأخلاقي من خارج التاريخ والحياة والواقع اليومي، بأن ربطوا تحرير الإنسان التاريخي (الاجتماعي والسياسي) بالتحرر من الخطيئة. وللحديث صلة..