المتنبي كيف عاش بيننا ؟

نايف الرشدان

لم يكن أحمد بن الحسين شاعرا فحسب، بل كان طبيبا نفسيا، كتب وصفاته فأرسلها إلينا، ولم يكن متنبيا فحسب، بل كان عبقريا قرأ حياتنا قبل أن نعيشها واستوعبها قبل أن نفهمها، ولم يكن مبدعا فحسب، بل كان حكيما يصف الشئ كما يراه فنجده يتطابق مع نواميس الحياة وجريان أحداثها، ويصف النفس البشرية كما لو كانت صالحة لكل زمان ومكان، بل كما لو كان يتحدث إنابة عنها، وقد اقتطفت لكم بعضا من صفاته ووصفاته:
• ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا
استغل صورة المريض الذي لا يجد في فمه طعما للماء الصافي القراح بسبب مرارة المرض على لسانه، ليضع الصورة في برواز يخص أولئك الذين يرفضونك مبكرا، قبل أن تقول شيئا، وقبل أن تكتب شيئا، فإن من لا يودك لن يستسيغ منك جمالا ولا كمالا، ولن يستمع إليك ولو صدقت وإذا استمع إيقاع صوتك عده قعقعة، ونجاعة قولك عدها جعجعة، وفي ذلكم ظلم سافر من المتلقي الذي لا ينصت إلا لنفسه أو لمن يحب، ومثله لا يملك ذرة إنصاف، بل يملك بوصلة تتجه لذاته ورغائبه ورغباته، وثقته الزائفة في نفسه وفي من حوله، فإن وجد من يخالف توجهه أعرض عنه، ولم يعده ذا بال، فلا قيمة إذا لأي شيء يقوله، ولا لأي شيء يفعله!!
• وأظلم أهل الظلم من بات جاحدا ... لمن بات في نعمائه يتقلب
يسدي إليك أحدهم معروفا، وتعيش تحت ظلاله منعما بصيت ومديح وشهرة، ثم تسيء له وتظلمه وتسعى لتشويهه وأنت تحت ظلال أشجاره الوارفة، وبين نخيله المثمرة!!
• وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
المتنبي يعرض بأبناء عصرنا وآبائه ممن عميت عليهم، فلا يكاد يفرق بين الأشياء، فيعد الحق باطلا، والعدل ظلما، والهدى ضلالا.. وهكذا المعايير لديه مفقودة، فهو لا يسير على نور الحقيقة، وإنما على فوانيس هواه وعاطفته.
• وليس يصح في الأفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
ينقل المتنبي إليك المعلومة سريعا، يؤكد من خلالها على أن الحقيقة الناصعة لا تحتاج إلى براهين، فلربما تعرضت عقول البشر لموجات من الخلل والاهتزاز بمجرد أن يطلب توضيحات لكلمات الصادق وشروحات لعبارات الحقائق.
• إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى
يبثك شكواه من تود، ويبوح لك بما يجد، ثم تسقط أنت مع دموعه إلى الأرض دون أن تتمسك بحبال الاستفهام والتبين، ومحاولة التبصر في الدموع، فما يدريك لعلها دموع إخوة يوسف حين جاءوا أباهم عشاء يبكون، غير أن والدهم كان رجلا حكيما استطاع ببصيرته أن يكشف عوار التلفيق والظلم بعيار التبين والعدل، وحين وجدنا من انطلت عليهم حيلة الدموع وغابت عنهم حقيقة التمييز بين من يبدو صحيحا ومن كان معتلا وجدنا المتنبي يحذرهم:
أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

nrshdan@gmail.com