محاولات جادة

مها الشريف

دعونا نوجد الأسباب في خانة المحاولة ونغلق ملف الضحايا الذين نرصدهم كل عام نتيجة الأخطاء (أخطاء السير) وتدني مستوى السلامة ونسقط ظاهرتها من قاموس الحياة العامة.
إذا سخرنا القوة الخفية الكامنة في التقنية الحديثة فسنجد أكثر مما نأمل ونطلب، ولو أحصينا أعداد التقنيين في كافة القطاعات وقسمنا المهام حسب فئات التخصص وإمكانية المقاييس العقلية لأدركنا أن العقول هي من صنع الآلة التقنية، وراهن على عمرها الافتراضي.
اقترن هنا ذكاء الآلة مع مقدار ذكاء الإنسان ونبوغ تخصصه، وليس بالضرورة أن يكون الإعداد مكلف ويستهلك موارد ضخمة من الطبيعة، إن الابتكار يشكل نقطة انطلاق الذكاء الإنساني في كل العلوم والصناعات، نحن بحاجة إلى التأمل والتفرد المعرفي الذي يوصل إلى الإبداع متى ما شاءت كينونة العقول. الغرض من المحاولة التكرار بل الممارسة التي تصنع تفوقا تدريجيا حتى يسترسل الوعي الإبداعي ويصدر الثروات للعالم الخارجي.
(إدموند هوسرل) أستاذ الرياضيات بجامعة جوتنجن الألمانية نشر كتابا في (فلسفة) الحساب (1891) وقادته الرياضيات إلى الفلسفة كما كان شأن كثير من المحدثين، ثم وضع مبدأين أحدهما سلبي والآخر إيجابي، وهو يقصد تحري الدقة أكثر من ديكارت، وأطلق (فلسفة الظواهر) إذا سلمنا جدلا أن الظواهر حولنا تستدعي تكثيف مادة الرياضيات لكي نفتح أبوابا على باقي العلوم وخصائص المعارف ونقر منهجا متحررا من الوقوف طويلا عند عارضة الواقع المحلي.
وإذا آمنا بمقدرة العقول تعددت المحاولات الجادة وكفلت لنا الظروف التي تنفض غبار التردد والتكرار، لقد اقتصر نشاطنا على العلم النظري إلى سنوات طويلة بحيثيات الأجانب الذين كانوا وما زالوا يقومون بجميع الأعمال والوظائف الميدانية مما أحاط مختلف التخصصات بالرهبة، كما نقل ذلك الشعور إلى الأعمال التي تصحح مسيرة البناء المطلوب من الشباب في المجتمع. يحتم علينا العصر توظيف جميع الآليات التي حولنا ابتداء من آلية الكلام إلى آلية العمل، علما أننا ندرك حجم هذه المساحة الصاخبة بين اللفظ والمطلوب، كما أن الإنصاف (إنصاف الواقع من زخرفة السياسة) يحرر العلم من الركود ويمنحه وسام النشاط المعرفي من التبلد المتقن، لقد هيمنت التقنية على الإنسان فأصبح هو الهدف قبل أن يصنع هو تلك الأهداف.
إن الطقوس التي نعيشها لم نستوف شروطها، وبذلك تضاءل حجم التجانس بين التخصص والإبداع ومواجهة الأزمات الفكرية بكفاءة عالية من ضمن المحاولة، كما أن الأماني والأحلام لا تبني المصانع أو تخدم التراجع الذي شيد محطة انتظار ضخمة توقف الكثير بها ولم يغادروها إلى الآن، المحاولة بحد ذاتها تطور تقني.
قرأنا كثيرا عن ارتباط الفاعلية والإبداع بالإنسان والآلة والشغل والحرية، إن المحاولة والعلوم والتقنية أوقفت الهواء واستثارته لتعطي النتروجين والأرض لتعطي المعادن، وهذا يؤكد أن الاختراع يعتمد على المحاولة والنشاط الذهني والمعطيات العبقرية التي تميز الكوادر الصناعية من الأخرى الساكنة التي تحيا وتموت من نتاج الغير وتعيش تحت رحمة العالم الصناعي واستعمال ما تم توزيعه من الطاقة بلا سيادة.