التعديلات المضافة للعوامل الوراثية Epigenetics

غازي عبداللطيف جمجوم

هناك علم جديد قد يهمنا جميعا وهو موضوع جائزة نوبل للطب لهذا العام. يسمى هذا العلم بالإنجليزية Epigenetics وترجم باللغة العربية إلى «علم التخلق» ولا أجد هذا المصطلح مناسبا تماما. وحتى شيوع مصطلح عربي نتعود عليه قد لا يكون هناك بد من استعمال المصطلح الإنجليزي (إيبيجيناتيكس) نفسه وهو يعني ما يحدث للمادة الوراثية (الجينوم) من تعديل (وليس تغييرا) لإحدى القواعد النووية (C) التي تشكل أحد الحروف الأربعة (A,T,G,C) التي يتكون منها خيط الحامض النووي (د ن ا DNA) الطويل وهو المكون الأساسي للمادة الوراثية لأي مخلوق، وكذلك من تعديلات للبروتينات التي يلتف هذا الخيط حولها وتدعى بروتينات الهيستون ويوجد منها أربعة أنواع. هذا التعديل أو التشكيل لحروف الـ (د ن ا) والهيستونات المصاحبة له ظهر مؤخرا وبسرعة على الساحة كلاعب رئيس في التحكم في نشاط العوامل الوراثية (الجينات) المختلفة التي يتكون منها الجينوم. يمكن لهذا التعديل أن يغلق مقاطع كاملة من المادة الوراثية فيجعلها خامدة لا تأثير لها، ويمكنه كذلك تنشيط مقاطع أخرى لتؤدي عملها في الخلية. وهكذا يكون تنظيم عمل المادة الوراثية بشكل كبير تحت سيطرة هذا التعديل المضاف. النتائج المترتبة على التعديل كبيرة جدا. مثلا، يبدأ نمو الجنين من خلية واحدة يتوالد منها بضعة خلايا متشابهة ثم تتحول هذه الخلايا إلى أنسجة مختلفة تماما، فهناك خلايا للجلد وأخرى للدم وثالثة للأعصاب ورابعة للعضلات وخامسة للشعر ، وهكذا. كل هذه الخلايا تحمل نفس المادة الوراثية ( د ن ا) تماما أي نفس التسلسل للحروف الأربعة ومع ذلك تظهر كل خلية بصورة مختلفة جذريا عن الخلايا الأخرى وتلعب كل خلية دورا مختلفا ضمن مسرحية متناسقة. هذا الاختلاف ليس بسبب تغيرات (طفرات) في نوع أو ترتيب حروف المادة الوراثية مثلما يحدث في بعض الأمراض الوراثية. ولكنه بسبب التعديلات التي أضيفت على المادة الوراثية مثل ما تضاف حركات التشكيل أو الإشارات الجانبية التي تقود القارئ إلى التأكيد على أو إهمال مقاطع من النص. اختلاف المقاطع المقروءة من المادة الوراثية هو سبب الاختلاف بين خلايا الأنسجة المختلفة. تحتفظ كل خلية بكامل المادة الوراثية للمخلوق ولكنها لا تعبر إلا عن جزء محدد منها حسب النسيج الذي تنتمي إليه. كيف يمكن التأكد من أن المادة الوراثية الكاملة تبقى بصيغتها الأساسية في كل خلية من خلايا الأنسجة المختلفة؟ هذا ما أثبته الفائز الأول بجائزة نوبل للطب لهذا العام وهو العالم البريطاني جون قيردون عندما أدخل في عام 1962م نواة خلية من النسيج المعوي من ضفدع في بويضة ضفدع آخر تم تفريغها من النواة. تمكنت نواة الخلية المعوية من تكوين ضفدع جديد كامل، مؤكدة أنها لازالت تحتفظ بكامل البرنامج الوراثي اللازم لتكوين كافة الأنسجة المختلفة. هل يمكن لنا أن نعيد برمجة خلايا أنسجة مختلفة إلى المرحلة الجنينية لتصبح خلايا جذعية يمكنها ربما إنتاج أي نسيج جديد نرغب فيه؟ ، هذا ما أثبته الفائز الثاني بجائزة نوبل وهو العالم الياباني شينيا ياماناكا حينما استطاع في عام 2006م تحويل خلايا عضلية إلى خلايا جذعية بإدخال فقط أربع جينات إليها هي (Oct4- Sox2- Klf4- c-Myc). هذه الأبحاث أثبتت أن التعديلات المضافة للمادة الوراثية ، وليس تغيير حروف المادة الوراثية نفسها، هي الأساس في الاختلاف بين الخلايا الجنينية (الجذعية) وخلايا الأنسجة المختلفة. كذلك تبين أن الخلل في التعديلات المضافة يلعب دورا كبيرا في كثير من أنواع السرطان وكذلك في بعض الأمراض العصبية والنفسية. كما أنه يفسر التأثيرات المتوارثة لبعض المؤثرات البيئية. اتجهت عدة مراكز علمية لدراسة علم الإيبيجيناتيكس، كما بدأت مشاريع كبيرة لتحديد التعديلات الإضافية على كامل الجينوم في خلايا مختلفة.. ومؤخرا صرحت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية باستعمال دواءين لعلاج بعض أنواع السرطان يعملان على إيقاف عمل إنزيمات تتسبب في خلل التعديلات المضافة للعامل الوراثي. وهكذا يفتح هذا العلم بابا جديدا واسعا لفهم أسس تحور الخلايا وربما لإنتاج أنسجة بواسطة الخلايا الجذعية لاستبدال الأنسجة التالفة في بعض الأمراض الشائعة، أو إنتاج أدوية جديدة لعلاج السرطان وبعض الأمراض العصبية والنفسية.


للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 133 مسافة ثم الرسالة