صنع الله إبراهيم.. من الحيوانات إلى يـوميّـات الـواحـات

محمد بن عبدالرزاق القشعمي

يقول إنه قد قرأ بإعجاب كتابا للكاتب السويدي أكسيل مونتيه عن عالم الحيوان من مكتبة السجن وأنه قد وضع في رأسه البذرة الأولى لسلسلة الروايات التي كتبها بعد عقدين، وبالعودة إلى قائمة أعماله نجده يسجل إلى جانب رواياته السابق الإشارة إليها ومترجماته الأخرى نجد رواياته العلمية ومنها:
عندما جلست العنكبوت تنتظر. ــ دار الفتى العربي، بيروت، 1980، 1983، 1986م.
اليرقات في دائرة مستمرة. ــ دار الفتى العربي، بيروت،1980، 1983، 1986م.
إضافة إلى: العدو، جيمس دروت أولى، الحمار، جو نتردي برون، معونة أم استعمار جديد. ــ أرنولد أنوخكين، ولد لا يعرف الخوف، التجربة الانثوية.
ونجده رغم معاناته مع أصحابه عند نقلهم من سجن مصر المركزي إلى سجن الواحات ومع رحلة العذاب التي استمرت عشرين ساعة دون طعام أو شراب، مقيدي الأيدي، نجده يتلذذ بمشاهدة قرص الشمس أثناء اكتماله وصعوده في الفجر، وبالاستماع إلى صوت محمد علي عامر ــ زميله ورفيقه بسيارة السجن ــ الأوبرالي وهو يغني (على دلعونة على دلعونة).
بعد أشهر قليلة نقل مع من معه من سجن الواحات إلى سجن القناطر الخيرية ووضعوا في مكان منعزل.. ومنعوا من الاختلاط بالسجناء العاديين أو الحصول على الصحف أو استخدام المكتبة أو الاستماع للراديو كغيرهم..
بعد إلحاح سمحوا له بالكتب المقدسة.. وهكذا أتيح له أن يقرأ التوراة والإنجيل ويرى العلاقة القائمة بين الكتب السماوية الثلاثة والتجليات المختلفة للحلم الإنساني بالعدل والمساواة، كما استفاد وارتوى من الحكايات التاريخية في التوراة والقرآن ونشط خياله في تطوير كثير منها.
يذكر أن الطعام المقدم لهم كان سيئا مما دعاهم إلى زراعة الكثير من الخضار والفاكهة وتولوا بأنفسهم المطبخ والخدمات كاملة.. فوزعوا المسؤوليات فيما بينهم، فيذكر أن فرقة حراسة الحقل ــ المزرعة ــ يرأسها محمد عمارة ــ الدكتور والمفكر الإسلامي فيما بعد ــ ويصفه بالوجه المتجهم بالغ الصرامة.. وتساهلت معهم إدارة السجن فبدأوا بإقامة الأنشطة الثقافية المتنوعة من محاضرات عامة في الاقتصاد والفلسفة واللغات والرياضة وتنظيم المسابقات الأدبية والندوات والأمسيات الشعرية والمباريات الرياضية.
وبدأت الصحف الناطقة.. وابتكر عبد الستار الطويلة وكالة أنباء السجن وأقنعوا الحراس بإقامة مسرح وأقنعوا بعض الجنود بجلب الكتب عند عودتهم من العطلات ويدفنوها في رمال الصحراء، وفيما بعد يتم نقلها إلى داخل السجن لتستقر في مخابئ تحت الأرض ويقول:«وهكذا تكونت مكتبة ضخمة ضمت قرابة عشرة آلاف كتاب، وتوفرت الصحف والمجلات.. ولازلت أذكر اليوم الذي وصلتنا فيه ثلاثية نجيب محفوظ.. وكان الزميل المسؤول عن توزيع الكتب يحتفظ بقائمة طويلة للرغبات يسجلها بعود محروق من الخشب فوق قاعدة صندوق السجائر، وعندما هرعت لإضافة اسمي أمام (الثلاثية) وجدت أمامي طابورا طويلا من الحاجزين، ولما كان المرضى يقدمون على غيرهم في مختلف منافع الحياة المشتركة، من طعام وخلافه، فقد تظاهرت بالمرض، لكني اكتشفت أن أمامي عددا كبيرا من المرضى الذين يحتاجون لتسلية لا تتوفر إلا في هذا الكتاب بالذات، وتفتق ذهني عن حجة جديدة لتخطي زملائي فزعمت أني مقبل على كتابة عدد من النصوص الأدبية وفي حاجة شديدة أكثر من غيري لقراءة الثلاثية لكي أتعلم منها. وفوجئت بأن عددا لا بأس به من الزملاء قرروا أيضا ممارسة الكتابة الأدبية ويحتاجون جميعا لشحذ إبداعهم بقراءة نفس الرواية، بل كان منهم كتاب حقيقيون بالفعل مثل فؤاد حداد وإبراهيم عبد الحليم ومحمد خليل قاسم.. ومحمد صدقي الذي عرف باسم جوركي مصر، وزكي مراد ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ومعين بسيسو الشاعر الفلسطيني وفتحي خليل إلى جانب مشاريع كتاب عديدين مثل عبد الحكيم قاسم وسمير عبد الباقي وكمال القلش وفؤاد حجازي وحسين عبد ربه ومتولي عبد اللطيف ومهران السيد ومحمود شندي وكمال عمار ومحسن الخياط ومجدي نجيب ورؤوف نظمي..
والواقع أني لم أكذب عندما تذرعت بمشروعاتي الأدبية، فقد كنت أتحرق شوقا لوصف ما رأيت وسمعت وعرفت، وكتبت بالفعل ــ منذ وضعت قدمي في سجن مصر ــ عشرات القصص والروايات في رأسي، ولم ألبث أن ضقت بهذا الشكل من الكتابة وأخذت أتطلع إلى استخدام الورقة والقلم».
وجد أن بعض الزملاء يحتفظون بأكياس الإسمنت الورقية وقد مزقوها إلى شرائح جاهزة للكتابة.. وقد حصل على أجزاء صغيرة من أقلام الرصاص.. فسرعان ما تمكن من كتابة أول قصة له باسم (الضربة) ثم قصة أخرى بعنوان (بذور الحب)، وعرض عليه إبراهيم المناسترلي أن يكتب قصة حياته في حلقات مقابل ثلاث سجاير لكل حلقة.. لم يستطع إكمال الحلقات رغم الإغراء لكونه لم يعش تلك التجارب.. ولهذا وجد اللذة عندما بدأ يصوغ بعض القصص من أجواء طفولته.. فقال: «.. هكذا تلقيت درسي الأول: ألا أكتب عن شيء إلا إذا كنت أعرفه جيدا..» ..
ولهذا فقد قرر أن يصبح كاتبا فكان أشبه بجهاز الرادار النشط يتحرك في كل الاتجاهات ليلتقط كل ما يثير المخيلة أو يصلح مادة للكتابة أو يساعد على فهم العملية الإبداعية والحياة نفسها، وقال: «.. أخذت نفسي بجدية شديدة فأخضعت كل دقيقة في اليوم لهدف الكتابة: التذكر، القراءة، العلاقات الشخصية والإصغاء إلى الآخرين: كنت قد قررت أن أصبح كاتبا..».