جاد الملامح

أنس أمين مدني

رفقاء العشاء كان يجمعهم أصلهم القوقازي، ما عدا شخصا روسي الأصل جاد الملامح لم تلقه من قبل. لا يعرفونه لك بخلفيته العلمية أو العملية، ولكن بولعه بالقراءة والكتب والمكتبات. يحول دفة الحديث إلى الأقلية القوقازية، خصوصا ذات النفوذ في موسكو، متهما إياهم بأن علاقتهم الحالية بأصلهم الفكري هي فقط أسماؤهم الإسلامية وبقايا عاطفة. تعتقد أنك في مأمن، فأنت لست روسيا أصله قوقازي، ولست من أصحاب أي نفوذ كان. لكنه يتحول بحديثه لك وليته لم يفعل. يقول إنه يوافق تحليل بريجنسكي (مستشار الرئيس الأمريكي كارتر للأمن القومي) في أوائل التسعينيات «بأن قوة الأمم لا تستمر بدون رسالة، وأنه بدون أن تكون الرسالة نابعة من أخلاقيات خاصة بها، وتستطيع تعريف منهج يمكن تقديمه كنموذج للآخرين، فإن الاعتقاد بالصواب سينتهي داخليا بدون أن يغري الغير، وهذه هي الحالة التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي». فالاتحاد السوفيتي برغم امتلاكه القوة العسكرية الجبارة، وبرغم سيطرته على معظم آسيا ونصف أوروبا، وبرغم تقدمه العلمي فشل لأنه استخدم الشيوعية كرسالة ولكنها لم تغر الآخرين.
أما أمريكا، فإن البروتستانت البيض من الأصل الأنجلو ساكسوني سيطروا على أمريكا منذ نشأتها، وما زالوا (اليوم هناك من يقول عن ضعف نفوذهم مؤخرا، ويدلل بعدم وجود أي قاضٍ في المحكمة العليا ينتمي لهم، ولكن من يقول هذا يراه متزامنا مع تنامي نفوذ اليهود)، فمنهم أقوى الكيانات الاقتصادية مثل روكفلر ومورجان وفورد وكارنجي وديوبونت وفوربس، ومنهم رؤساء أمريكا (ما عدا كينيدى وأوباما) ويسيطرون على الصناعة العسكرية. منذ القرن السابع عشر فطنوا إلى أهمية تنقيح الرسالة المسيحية. اعتمدوا أن عرض العقيدة يجب أن يعتمد على تفضيل العقل. أنشأوا الجامعات (هارفرد ــ يل ــ برنستون ــ معهد ماساتشوستس للتقنية...). تحرروا مما أقرته الكنيسة من قيود عبودية المرأة، وأنتجوا نظاما اقتصاديا قابلا للتصدير ونظاما سياسىا ظاهره العدل والحرية ضمن تسلط محكم من نخبتهم. خرجوا إلى العالم برسالة الديمقراطية والرأسمالية وحقوق الإنسان والمرأة، وهم غاية في الجدية لنشرها بكل الوسائل: الإعلام والفن والقوة الاقتصادية والقوة العسكرية.
يتابع: منا ــ نحن الأرثوذوكس ــ من يقول عن إيمان لنخبة البروتستانت الأمريكية بربط تكوين مملكة إسرائيل وعودة المسيح، ويدلل بأنه في عام 1891م جمع توقيع 413 من النحبة الأمريكية ضمت القاضي الرئيسي للمحكمة العليا ومتحدث مجلس الشيوخ وحكام نيويورك وبوسطن وشيكاجو ورجال أعمال مثل روكفلر ومورجان، مطالبين الرئيس الأمريكى هارسون بإنشاء دولة إسرائيل في فلسطين. أما نحن الأرثوذكس، فقد تأثرت رسالتنا بسبب الشيوعية في روسيا والمجازر اللا إنسانية التي قام بها الصرب في البوسنة.
ما يحيرنى هو عظمة رسالتكم. فأنتم وبرغم تأخركم العلمي وضعفكم وتفككم، وبرغم أنكم لم تستطيعوا تطوير نموذج عصري اقتصادي أو اجتماعي يقتدي به الآخرون، وبرغم ضعف قدراتكم الإعلامية والفنية، إلا أن هناك أكثر من بليوني إنسان، ويزيدون بمعدل 1.84% سنويا، يؤمنون بها. وهم من ثقافات مختلفة: أفريقيا السوداء، آسيا بوسطها وشرقها وجنوبها، شبه القارة الهندية، تركيا، إيران وأوروبا وغيرهم. وبرغم أن الشرق والغرب حاربها وبعنف ولا يزال، إلا أنهم لم يستطيعوا إضعافها، بل أصبحت تتغلغل رويدا في مجتمعاتهم.
يصر على دعوتك منفردا لعشاء آخر ليستكمل حديثه، تتمتم: الله المستعان.