بورخيس يتذكر .. التاريخ العالمي للعار بدايتي الحقيقية

محمد بن عبدالرزاق القشعمي

يتذكر بورخيس البداية الحقيقية لمسيرته مع الكتابة بقوله «بدايتي ــ ككاتب ــ ظهرت من سلسلة التجارب المسماة (التاريخ العالمي للعار) التي نشرتها على أعمدة (كريتيكا) بين 1933 و1934، ويا للسخرية، فإن (رجل الناصية الوردية) كانت قصة بالفعل، بينما تلك التجارب وبعض الخيالات التي تلتها حملتني شيئا فشيئا إلى كتابة قصص حقيقية، تجمع بين شكل القصص وشبه المقالات.
في عام 1927 وجدت أولى وظائفي الثابتة. قبل ذلك كنت قد قمت ببعض مهام التحرير الصغيرة. تعاونت في ملحق (كريتيكا) إحدى المطبوعات الترفيهية المنتشرة المصورة، و(الهوجار) ــ أسبوعية شعبية اجتماعية، حيث كنت أكتب مرتين شهريا على مساحة صفحتين حول الكتب والمؤلفين الأجانب، كما كتبت بعض التقارير الإخبارية وتعاونت مع مجلة شبه علمية اسمها (أوربة). كلها كانت أعمال قليلة العائد، ومنذ وقت طويل كنت في سن المساهمة في نفقات البيت.
عن طريق الأصدقاء حصلت على وظيفة مساعد أول في فرع (ميجيل كانى) للمكتبة البلدية، في حي قديم، يمتد إلى جنوب غرب المدينة، كان تحتي مساعدان ثانٍ وثالث، كما كان يرأسني مدير وثلاثة موظفين، أول وثانٍ وثالث، كان الراتب مائتين وعشرة بيسو في الشهر، زادت بعد ذلك إلى مائتين وأربعين.
في 1946 صعد إلى السلطة رئيس لا أريد أن أتذكر اسمه، بعد قليل تم تشريفي بخبر أنني رقيت إلى وظيفة مفتش على الطيور والأرانب في الأسواق. ذهبت إلى البلدية لأسال عما يعنيه هذا التعيين، قلت للموظف: (انظر، يبدو لي غريبا بعض الشيء أن كل الذين يعملون في المكتبة اختاروني لهذه الوظيفة). فأجاب الموظف: حسنا، حضرتك كنت مؤيدا للحلفاء وقت الحرب، الآن ماذا تريد؟ هذا التأكيد كان قاطعا. وفي اليوم التالي قدمت استقالتي. ساعدني الأصدقاء وأقاموا عشاء للتخفيف عنى. أعددت خطبة من أجل المناسبة، لكن لأنني كنت شديد الخجل طلبت من صديقي (بدرو أنريكيث أورينتا) أن يقرأها باسمي.
أصبحت بلا عمل، وقبل شهور كانت امرأة إنجليزية عجوز قد قرأت لي الطالع وتنبأت أنني سوف أسافر وسوف أجني مالا كثيرا من الكلام. عندما حكيت هذا لأمي أخذنا نضحك؛ لأن الكلام على الملأ كان أبعد ما يكون عن قدراتي.
العمى كان ينال مني تدريجيا منذ طفولتي مثل غروب صيفي بطىء، ولم يكن دراميا أو شجنيا في شيء. بداية من 1927 تحملت ثماني عمليات في عيني، لكن منذ نهاية الأربعينات، عندما كتبت (قصيدة الهبات) وبسبب القراءة والكتابة، كنت قد أصبحت كفيفا، العمى كان صفة لعائلتي. وصف العملية التي أجريت لعيني أحد أجدادي، (أدوارد يونج هاسلام) ظهرت على صفحات مجلة (لانست) الطبية اللندنية».
«.. نتيجة هامة لكف بصري، أنني كنت أترك الشعر الحر تدريجيا إلى العروض الكلاسيكي. بالفعل أجبرني العمى على كتابة الشعر من جديد، لأن المسودات أصبحت غير موجودة بالنسبة لي، كان علي أن ألجأ للذاكرة، ومن المؤكد أن تذكر الشعر أسهل من النثر، والشعر المقفى أسهل من الشعر الحر، يمكن القول إن الشعر المقفى (محمول) يمكن للمرء أن يمشي في الشارع ويسافر في مترو الأنفاق، بينما ينظم ويعيد صياغة سوناتا (قصيدة)، لأن القافية والعروض لهما ميزة التذكر بسرعة.
الشهرة، مثل العمى، كانت تصلني شيئا فشيئا، لم انتظرها أبدا، لم أسع لها أبدا. (نسنتور أيبارو) و(روجير كلاوس) اللذان جرؤا في بداية الخمسينات على ترجمتي إلى الفرنسية كانا أول المحسنين لي. أعتقد أن عملهما مهد الأرض لكي أشارك (صامويل بيكيت) جائزة (فورمينتار) عام 1961، فحتى ظهوري بالفرنسية كنت غير معروف تقريبا، ليس فقط في الخارج، إنما في (بوينوس أيرس) أيضا. بسبب هذه الجائزة ظهرت أعمالي في كل العالم الغربي من المساء إلى الصباح مثل عيش الغراب.
الناس طيبة معي بشكل غير مفهوم. لا أعداء لي، وإن تظاهر البعض بهذا، فقد كانوا شديدي الطيبة فلم يجرحوني حتى. كلما قرأت شيئا كتبوه عني، لا أشاركهم شعورهم فقط، وإنما أفكر أنني ربما كان يمكنني أن أقوم بعملي أفضل، ربما يجب نصيحة المتطلعين والأعداء الذين يرسلون لي نقدهم مقدما، على ثقة أنهم سيلقون مني كل عون ومساعدة.. حتى أنني أفكر في كتابة هجوم طويل على نفسي تحت اسم مستعار، آي يالقسوة الحقيقية التي أحملها!
في مثل سني يجب على المرء أن يكون واعيا بالحدود الخاصة، وهذا الوعي ربما يرجع إلى السعادة. في شبابي كنت أعتقد أن الأدب لعبة ذات أشكال جميلة مفاجئة، الآن، وقد وجدت صوتي الخاص، أفكر في تصحيح والعودة إلى تصحيح بداياتي، لا أحسنها ولا أقبحها، من المفترض أن هذه خطيئة ضد الاتجاهات الأدبية الرئيسية في هذا القرن: الزهو بالكتابة، التي دفعت (جويس) إلى طباعة أجزاء تحت العنوان المتفاخر (عمل في طور التكوين).
أعتقد أنني كتبت أفضل كتبي، هذا يسبب لي بعض الرضا والهدوء، ومع هذا، لا أعتقد أنني كتبته كله. وبشكل ما يبدو الشباب أقرب لي الآن من وقت شبابي. لم أعد أرى السعادة لا طريق لها مثلما كان يحدث لي منذ فترة. الآن أعرف أن هذا يمكن أن يحدث في أي لحظة، لكن لا يجب البحث عنها. بالنسبة للشهرة والفشل يبدوان لي غير مكشوف عنهما، ولا يشغلانني. السلام هو ما أريد الآن، ومتعة الفكر والصداقة. وعلى الرغم من أن هذا يبدو طموحا زائدا: شعور أن أحب وأن أكون محبوبا..».