الروائي ولوعة الغياب

عبدالرحمن العكيمي

الكتابة مغامرة باتجاه الموت حينا، ومغامرة باتجاه الحياة في أحايين كثيرة. الكتابة هي الألم اللذيذ الذي نرتاح إليه، ونتنفس الأشياء برئة عريضة من خلال بوحها الذي ما إن ينتهي حتى يعود لأصابعنا من جديد. كنت أقضي وقتا ممتعا وأنا أمضي مبحرا في عوالم مهولة في السرد واللغة والحياة والنهايات للروائي الكبير عبدالرحمن منيف ــ يرحمه الله ــ وفي كل مرة اقرأ المنيف أجدني اكتشف معه شيئا جديدا فروايات الأشجار واغتيال مرزوق وقصة حب مجوسية وشرق المتوسط وحين تركنا الجسر والنهايات وعالم بلا خرائط وخماسية مدن الملح وأرض السواد وأم النذور وغيرها من أعماله الخالدة، والتي حققت مقروئية عالية في الوطن العربي جاءت لتأخذ على عاتقها هم (تأسيس رواية عربية) لها أطرها الفنية ومعمارها الإبداعي المتقن. يقول الكاتب محمد دكروب: «إن هم تأسيس رواية عربية ليس، بالنسبة لمنيف، مجرد هم نقدي ونظري، بل هو هم إبداعي بالأساس، وممارسة روائية بالفعل، وإنما جاء هذا الهم إلى الكتابة النقدية والصياغات النظرية انطلاقا من الممارسة نفسها». ورغم أن النقاد والباحثين يرون أن رواية زينب لمحمد حسين هيكل الصادرة في عام 1914م تمثل أهمية كبيرة في مشهد الرواية العربي، وكذلك الجهود الروائية المبكرة التي بذلها الروائي العالمي الراحل نجيب محفوظ، كل ذلك ينظر إليه بعين الاعتبار غير أن عبدالرحمن منيف له حيزه الخاص الذي لا يشبه سوى عبدالرحمن منيف وحده، وهو الحائز على جائزة الرواية العربية في المؤتمر الأول للرواية في مصر وغيرها من الجوائز، ناهيك عن ترجمة معظم رواياته إلى خمس عشرة لغة.. وحين نقرأ أحاديث ورؤى المنيف عن أعماله الروائية وعن تجربته الروائية المثيرة نكتشف مدى ما يمتلكه هذا الروائي من مخزون ثقافي هائل، فنجد أننا أمام ناقد وأمام أديب عريض جدا، وأمام فيلسوف يمنطق الأشياء وهو يتحدث من داخل التجربة الروائية.. إننا نعثر مع كاتبنا على كتابة أخرى وعلى رواية أخرى وعلى ممارسة جديدة، سواء في جميع كتبه حتى الأخرى غير السردية أو حتى في حواراته الصحافية إنه يمتلك رؤيا خاصة لفنان كبير حين يتحدث عن شخصية محورية في عمل له، أو حين يتحدث عن إشكالية في الثقافة العربية، أو حتى حين يتحدث عن لغة الرواية.. يقول: «إن الإنسان محكوم عليه بالحياة»، ونجد أنه يعاني من وجع المثقف ومن غربته ومن تحطم أحلامه، وحيث هو مصاب بلوعة الغياب التي لازمته في رحلته الإبداعية.
يقول في كتابه الكاتب والمنفى متحدثا عن لغة الرواية: «إن جزءا كبيرا من اللغة فضفاض وتتخلله فراغات كثيرة، وهذا ناتج لعدم المعرفة باللغة لابتعادنا عن الجذور». ويقول أيضا: من المظاهر اللافتة للنظر في الرواية العربية المقدار الكبير، بل الهائل من الزخرفة اللغوية، وقد يقترب بعضها من الشعر الحقيقي، لكن دون أن يكون لها علاقة عضوية بالبنية الروائية. ويسوق ملاحظة ثالثة: من المشكلات الأساسية التي تواجه الرواية العربية كيفية إدارة الحوار بين الشخصيات، ومن جملة التحديات التي تواجه الرواية العربية الوصول إلى لغة هذا الحوار، ويرى أن حقل الرواية لا يزال حقلا بكرا ولا يزال إلى حد بعيد بدون تراث تاريخي بعكس الشعر، وحين يتحدث عن عنصر الحكاية في بناء الرواية، يقول: «يجب ألا يتحول الروائي إلى حكواتي».. هكذا ينبه ويحذر الروائي ألا يكون حكواتيا يريد منه أن يعيد كتابة الحياة بشكل آخر، أن يكتب عن ظلال الأشياء بلغة السرد ولا يكتب عن الأشياء بذاتها بل عن ظلالها، وأن يقرأ الأحداث، وأن يقتحم آفاقا جديدة، وأن يبتعد عن مزالق التقليد والتكرار. إن الرواية العربية اليوم وبغياب عبدالرحمن منيف تعيش هي الأخرى لوعة أخرى للغياب.