الكلمات هي الحياة

بداياتهم ..جان بول سارتر ..

محمد بن عبدالرزاق القشعمي

يذكر جان بول سارتر في كتابه: (سيرتي الذاتية.. 1 – الكلمات) أنه ولد عليلا إذ تعرف والده (جان باتيست) على والدته (آن ماري شوايتزر) عام 1904م فتزوجها، وأولدها، وكانت أمه في العشرين من عمرها، بلا تجربة ولا نصائح.. لقد فطم قسرا في الشهر التاسع وهو مريض.. مات والده فعادت به أمه إلى بيت أبويها. لقد احتظنه جده (شارل شواريتزر) وشجعه وبدأ يكتب له ثلاث مرات في الأسبوع رسائل من الشعر لينقلها بقلمه فلعله يتعلم ويتذوق الشعر.. ولهذا نجده يقول: «.. وألفنا ذلك، فتوحد الجد وحفيده برباط جديد.. وقدم لي معجما للقوافي، فجعلت من نفسي نظاما، وكنت أكتب قصائد غزلية لـ(ففي)، وهي فتاة صغيرة شقراء لم تكن تغادر كرسيها الطويل، وقد ماتت بعد ذلك بأعوام، وكانت الفتاة لا تبالي بها.
كانت ملاكا، ولكن إعجاب جمهور كبير كان يعزيني من هذه اللامبالاة.. فقد كنت أكتب بدافع السعدنة، ودافع الاحتفالية لأظهر بمظهر الكبار..».
«ولكني كنت قد انطلقت، فانتقلت من الشعر إلى النثر، ولم ألق له أية مشقة في أن أخترع من جديد، كتابة المغامرات المدهشة التي كنت أقرأها في (كري ــ كري) وحين كانت أمي تسألني.. ماذا تفعل؟ كنت أجيبها: أنني أشتغل بالسينما!. وكنت في الواقع أحاول أن أنتزع الصور من رأسي وأن أحققها خارج نفسي.. كنت أتظاهر بأن أكون ممثلا بتظاهر بأن يكون بطلا، ما كنت أبدأ الكتابة، حتى وضعت قلمي لأتمتع بفرصة عظيمة، كانت الخديعة هي نفسها، ولكني قلت إني كنت اعتبر الكلمات جوهر الأشياء.. وأحسب أني أرسيت أحلامي في العالم بخدشات منقار فولاذي، لقد منحت نفسي دفترا وزجاجة حبر بنفسجي وكتبت على الغلاف (دفتر الروايات) وعنونت الرواية الأولى التي أنجزتها (من أجل فراشة).. وكنت قد اقتبست الحجة والأشخاص وتفصيل المغامرات، وحتى العنوان نفسه، من حكاية مصورة ظهرت في الثلاثة الأشهر السابقة، وكانت هذه السرقة المقصودة تحررني من ألوان قلقي الأخيرة.. كنت قد اهتممت بتغيير أسماء الأشخاص، وكانت تلك التغييرات الطفيفة تتيح لي مزج الذاكرة بالخيال.. لئن كان المؤلف الملهم، كما يعتقد عامة، شخصا آخر في صميم نفسه، فقد عرفت الإلهام بين السابعة والثامنة.
ولم أكن قط مخدوعا تماما بهذه (الكتابة الآلية) ولكن اللعبة كانت تروق لي بذاتها،
كنت وأنا الابن الوحيد، استطيع أن ألعبها وحدي، وكنت أحيانا أوقف يدي، وأتظاهر بالتردد لأحسني (كاتبا)، وأنا مقطب الجبين، مأخوذ النظر، والحق أني كنت مغرما بالسرقة. وكان كل شيء يرصد هذا النشاط الجديد لكي لا يكون إلا سعدنة أخرى، وكانت أمي تبذل لي ألوان التشجيع، وكانت تدخل الزوار قاعة الطعام لكي يفاجئوا الخلاق الفتي على طاولته المدرسية،
وكنت اتظاهر بأني أشد انهماكا من أن أحس حضور المعجبين بي، وكانوا ينسحبون على أطراف أصابعهم وهم يتمتمون أني كنت لذيذا أكثر مما ينبغي، جذابا أكثر مما ينبغي وأهدى إلي خالي أميل آلة كاتبة صغيرة لم أستعملها،
واشترت لي السيدة بيكار خارطة للكرة الأرضية لأتمكن من أن أرسم بلا تعرض للخطأ، خط سير رحالتي، وأعادت آن ماري نقل روايتي الثانية (بائع الموز) على ورق لماع، فتداولتها الأيدي، وكانت مامي نفسها تشجعني وتقول: (إنه على الأقل عاقل، فهو لا يحدث ضجة)..».
فكانت والدته تحاول إقناع جده بقراءة (بائع الموز).
«.. إقرأ هذا، يا بابا! إنه عجيب أكثر مما ينبغي!
ولكنه كان يزيح الدفتر بيده، أو أنه يلقي عليه نظرة، لا لشيء إلا لكي يسجل علي أخطاء الإملاء، وعلى المدى، انتقلت الخشية إلى أمي: فلم تكن تجرؤ بعد على أن تهنئني، وكانت تخاف أن تشق علي، فكفت عن قراءة كتاباتي حتى لا تضطر إلى أن تحدثني عنها.
وكنت أقول لنفسي: كل شيء ممكن الحدوث! وكان هذا يعني: أنني أستطيع أن أتصور كل شيء.
وكنت أروي فظائع تفوق قدرة البشر، وأنا ارتجف وأوشك أن أمزق ورقتي. وكانت أمي إذا اتفق لها أن قرأت من فوق كتفي، ترسل صيحة مجد وتحذير: (أي خيال!) وكانت تعض شفتيها، وتريد أن تتكلم، فلا تجد شيئا تقوله، وكانت تهرب فجأة: وكانت هزيمتها تدفع ضيقي إلى ذروته، ولكن الخيال لم يكن موضع جدال: انني لم أكن اختلق هذه الفظائع، بل كنت أجدها، كسائر الأشياء في ذاكرتي.