«عام اللغة العربية» وماذا بعد؟

عبدالله عويقل السلمي

تحدثت في مقالات الشهرين الماضيين عما يمكن أن يسمى (عام العربية) لما رأيناه خلال هذا العام من حراك لغوي لا تخطئه العين هنا وهناك، فظهرت مراكز ومؤتمرات، وعقدت ورش وندوات، ودبجت كتابات، بل حتى اليوم العالمي للغة العربية حضر للمرة الأولى تفاعلا واحتفالا (وانتفاعا) كل هذا التفاعل توشح بالدفاع عن العربية، وادعاء خدمتها، والتسابق عليها برا بها أو تكسبا منها.فما قد مته من مقالات لا يعدو أن يكون رؤية راصدة، أو خريطة ذهنية (عدسة بانورامية) مستقرئة إلى حد ما لهذه المحاولات حاولت أن أخلص من خلالها إلى أن اللغة عبر تأريخها خاضت (ومازالت) معارك من الصراع والنزاع بين مجموعات من العلماء والباحثين والمتعلمين تتوالج حوافرهم، وتتشابك مقاصدهم، غير أن بعض المرامي وبعض المحاولات قد تطفو على السطح أكثر من سواها، فتبدو وكأنها الأكثر قدرة على معالجة الخلل، وإصلاح المشكل، وتقديم الحل الناجع، لكن النهاية (كمن شام برقا في سحاب جهام فأراق ماءه طمعا فيه فمات عطشا) لهذا يظل مصير اللغة العربية يمر عبر منعطفات زمنية وتاريخية، ويظل مجموعة من علمائها المخلصين يقدمون ضروبا من وسائل الاستنفار الاحتمائي، وصنوفا من الاحتشاد الوقائي؛ للإبقاء عليها من خلال الإبقاء على خطاب ذي خلفية خاصة، (متأدلج) حينا، وواقعي أحيانا ويحمل نوايا خبيثة نادرا. ولم يكن هدفي ــ فيما قلت ــ انتقاص المحاولات، أو المزايدة على إخلاص هؤلاء العلماء، وجهودهم المبذولة (لخدمة اللغة العربية)؛ ولكن هدفي أن أبين ــ مع كل تلك المحاولات ــ أنه لا يستطيع متأمل لواقع اللغة،وعلاقة أبنائها بها أن ينكر مظاهر التراجع الذي تعانيه، والعقوق الذي تلاقيه، بالرغم من تلك الجهود. وكل ذلك ناشئ عن إهمال الداء حين بدأ يسيرا يمكن علاجه بجرعات معدودة من الدواء يصفها طبيب ماهر، حتى أضحى الواقع اليوم يحتاج إلى مصحات لغويةتشخص الداء وتقدم الدواء. أما لماذا وصلت إلى هذا الحال؟ وكيف يكون الإصلاح؟ وما وجهة نظري الخاصة فيه؟ فذاك هو ماناقشته في مقالاتي السابقة، وخلاصته: أن العمل على نشر اللغة ممكن لكن ينبغي ألا يكون بمنأى عن الواقع بما فيه ومن فيه، وأن نتجب شعور التباهي بخدمة اللغة، ونتجنب كذلك تكريس إشكالاتها ومشكلاتها في عقول المتلقين، ثم بينت أن الإقبال على اللغة العربية قد بدأ ــ لا بفضل مجامعها ومراكزها ومؤتمراتها، ولا بفضل علمائها على الرغم من جهودهم ــ ولكن بعوامل أخرى وبيئة خارجية بدأت تعمل عملها وتؤدي دورها، وعلماء اللغة مازالوا يتحاورون ويعقدون المؤتمرات وينقبون عن حلول منبعها اللغة ذاتها.إن قوة اللغة وحضورها سيأتيان من خلال الإنسان المتحدث بها؛ لأنّه هو محورها الذي يولد وينمو في رحابها، ويتقلب في أجوائها ويتأثر بتفاعلاتها، فهو الصانع الحقيقي لقوتها وضعفها، وهو المكون لألفاظها الباعث لاستخداماتها، ولو ركز الاهتمام عليه لكانت اللغة أفضل حالا، ولكن المحاولات حادت عن الجادة، فضاع الوقت، وتفرق الجهد، وكثرت التجاذبات وكل يدعي خدمة اللغة وتيسيرها، وكل جهة تزعم أنها أسهمت في حل مشكلتها، ولكن ماذا بعد؟ .
تويتر @aanzs1417