تكوين لغوي

نايف الرشدان

شئنا أم أبينا من لم يعن بلغته الكتابية فلا يتحذلقن بمقاطع مدوناته، ومن لم يول خطابه أهمية قصوى فلا يتعالمن على أترابه ولداته ، ومن كان خطابه اللغوي متهتكا فلا يكلفن ذاته مهمة تقوية النسيج المعرفي، ومن عجز عن صياغة جملته بسلامة، فهو عن جمع شتات أفكاره أعجز، ربما يتعجب المرء منكم هذا الانحياز الشديد إلى صف اللغة وقد يرمين أحدكم بالمبالغة!! ولو ظن ظان أن العبور إلى القارئ يمر من فوق اللغة، فهو يمر من نفق شديد الظلمة، العناية باللغة ليست مجرد ترتيب للكلمات أو ضبط للعلامات أو تجويد للبناء أو رصف للجمل، أو فهم لمعاني المفردات، أو استحلاب لقواميس تدر على معان عابرة، بل هي ليست استعراضا لقواك المعجمية وعضلاتك الصرفية، اللغة إلى جانب بعض ذلك نمط سلوكي يفرض عليك التحلي بنبل المعنى اللغوي ومظهر حضاري يشحن في داخلك طاقات هائلة من القيم الجمالية ، فمن لم تمنحه لغته شعورا عاليا من الفن والحس لم يمتح من ينابيعها العذبة ولم يعب من صفاء بريقها، اللغة الجميلة لا يمكن أن تكون خطابا وظيفيا يصل المعنى بالمبنى، كمن يوصلك إلى باب من تريد ويذهب ليترك لك حرج المقابلة، اللغة عالم شائق ماتع ينهض بمواهبك وقيمك وقدراتك، يرفدك ليس باللفظ فحسب، بل بتداعٍ ثاقب نافذ متناه.. إن من يدرك القيمة الحقيقية للكتابة عبر اللغة في تواثبها وتناهضها، عبر اختراقاتها وتجلياتها، عبر توهجها وتبرجها، عبر ومضاتها وإشعاعاتها، عبر ضيائها ونقائها، عبر شعرنتها ودوزنتها يدرك أي عالم يمتلك سقوفه حتى فضاءه، وأي عالم يمتلك حركاته حتى يوقد سكناته، وأي عالم يمتلك صحوته حتى يوقظ جماله من سباته.
ليست اللغة فقط أن تنظم من العبارات عقودا مبهجة، وإنما أن تنتظم أنت داخل اللغة حلما أنيقا لا يفقد وعيه و رمزا بليغا لا يني أثره، اللغة التي تريدها بناء لا يكفيك أن تكون صانعها وحامل حجارتها، إنما عليك أن تعد نفسك ركنا يقف عليه البناء، وحجر زاوية تلوذ به الحروف.. أروع ما يمكن أن تجده أمام عينيك أن تنضج الفكرة على يديك وأنت ما زلت مشتعلا بجذوة الرؤى، وحين تنسدل قامتك على صفيح الكلام تتناسل من معانيك عبارات الحياة.

nrshdan@gmail.com