الحرية والعدالة والمساواة وحق الاحتكام للقانون أصل في الإسلام

عادل بترجي

يعتقد الكثير أن منشأ الحرية، والعدالة، والمساواة، وحق الاحتكام إلى القانون، كان من المبادئ الديموقراطية التي أرست أصولها الثورة الأمريكية، في بداية القرن الثامن عشر الميلادي؛ حيث يرجع أصحاب هذا التوجه منبع هذه المبادئ إلى الوثيقة التي كتبها توماس جيفرسون، وأقرها مندوبو الولايات الأمريكية، في الثامن من يوليو من عام 1776م، والتي نصت في بعض أجزائها على أن جميع البشر خلقوا سواء، ولهم حق إلهي في الحياة والحرية والسعادة. في هذا التوجه مغالطة للتاريخ، وإغفال للمصدر الحقيقي والأصلي لهذه المبادئ، فقد أرست صحيفة المدينة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، المقومات الأساسية للمجتمع المدني قبل صدور إعلان الاستقلال الأمريكي عن بريطانيا بمئات السنين.
ولقد كان لصحيفة المدينة، وهي أول وثيقة سياسية تكتب في الإسلام، أكبر الأثر في تأمين الجبهة الداخلية لمستقر النبي صلى الله عليه وسلم، ونواة عاصمة دولته، ففي هذه الوثيقة الفريدة - التي حوت 52 بندا، 25 منها خاص بأمور المسلمين و27 تنظم العلاقة بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى - أعطى النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الديانات الأخرى الحرية في العيش مع المسلمين، والبقاء على مللهم، فضمنت بذلك أحد أهم أسس الحرية؛ ألا وهي حرية المعتقد. كما بين النبي صلى الله عليه وسلم بالتفصيل في هذه الصحيفة ما يجب على المؤمنين بعضهم مع البعض، من التكافل، والتعاون، والتناصر، والأخذ على الباغي.
كما وادع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوثيقة، اليهود وعاهدهم، وأمنهم على دمائهم، وأموالهم، ومواليهم، وترك لهم الحرية في عقائدهم، واشترط عليهم في المقابل أن يكونوا مع المسلمين، مدافعين عن المدينة يدا واحدة على من داهمهم فيها، أو حارب أهلها، وأن تكون عليهم نفقتهم في الدفاع، كما على المسلمين تحمل نفقتهم في الدفاع عن المدينة.
ولما كان بعض المشركين من قبائل العرب يسكنون المدينة، فقد أدخلهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحلف، فاشترط عليهم عدم إجارة مال، ولا نفس لقريش، ولا لمن نصرها، وأن عليهم نصرة أهل المدينة، إذا ما داهمهم أحد من خارجها.
ولقد ذهبت أهداف صحيفة المدينة إلى أبعد من الحلف السياسي العسكري، لتأمين الجبهة الداخلية للمدينة، فقد كانت كذلك عقدا اجتماعيا، بين قاطني المدينة، حيث وطدت بينهم حرمة النفس، والمال، والجوار، والوطن، وكفلت نصرة المظلوم، ومقاومة المعتدي، وإعانة المدين، وشددت على تحريم البغي والفساد، وإيواء الباغين والمفسدين.
وكانت في جملتها دعوة وتأصيلا للتعاون على البر والتقوى، وردت الاحتكام في الخلاف بين أطرافها، وبين أهل الكتاب بعضهم البعض إلى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم هو المرجع الأول والأخير في هذا المجتمع الجديد من بعد الله سبحانه وتعالى دون منازع.
وإن القارئ الثاقب النظر في هذه الصحيفة ليجد فيها جميع العناصر الأساسية، لإرساء المجتمع المدني، وتوثيق أواصر الروابط بين أفراده على اختلاف معتقداتهم، ومستوياتهم الاجتماعية، ولقد هدف النبي صلى الله عليه وسلم إلى وضع نواة لمحضن الأمة المسلمة؛ فكان لا بد له أن يحيد بقية فئات المجتمع؛ حتى لا تفسد هذا المحضن، وأن يعيش الجميع في وطن واحد آمنين على أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم، وأهليهم، ومواليهم، وأن يكونوا أحرارا في عقائدهم، وآرائهم وأن يكونوا يدا واحدة، على من اعتدى على موطنهم أيا من كان، وأن يكون لهم مرجع قانوني، يحتكمون إليه؛ فضمن بذلك الحريات الأساسية في النفس والمال والمعتقد، وأرسى جانب العدالة حين ساوى بين الجميع في المواطنة، وما يتبعها من حقوق وواجبات.
ومع أن العديد من الدراسات قد تناولت هذه الوثيقة التاريخية الهامة بالبحث، إلا أن غالبية مثقفينا والدارسين لقضايا حقوق الإنسان المعاصرين، يرجعون إلى أصول الديموقراطية، حين يريدون الاستدلال على المبادئ الأساسية لتلك الحقوق، ناسين ومتجاهلين أول وثيقة اهتمت بهذه الحقوق ورعتها وأنها الأولى بالمرجعية والاستدلال.