ترائي الهلال .. أزمة الفقه المعاصر

شتيوي الغيثي

في كل سنة تعود مشكلة الأهلة إلى الواجهة من جديد، حيث إن ذات المشكلات القديمة تتكرر دون الشجاعة في حسم هذا الأمر. هذه السنة كانت المشكلة كبيرة ثبت من خلالها حتى للمعترضين على الحسابات الفلكية خطأهم حيث نادت المحكمة العليا للترائي في يوم الثامن والعشرين من رمضان مما يحقق الكلام حول التخبط في عملية الترائي التي تحصل كل سنة، رغم دعوة بعض المشايخ كالمنيع مزاوجة المراصد مع الترائي، والكتاب كالمزيني الذي يزيد في الدعوة إلى الحسابات الفلكية العلمية والانتقال من الرؤية العينية الظنية إلى الرؤية الفلكية اليقينية كما هو تقسيمه.
وهم الترائي الذي يمارسه بعض الأشخاص في بعض مناطق نجد والاعتماد عليه دون غيره يجعلنا أمام مشكلة حقيقية ثبت أكثر من مرة خطأهم فيه في أكثر من مرة. ينقل عبدالسلام الوايل في مقاله في الشرق: «تمثيل القمر .. توق الرائي وصمود الرائي» الأحد الماضي عن الفلكي عدنان قاضي أن الدخول الرسمي للترائي وافق الحساب الفلكي ست مرات فقط طيلة ستة وأربعين عاما من الرصد. هذه الأزمة حقيقة في مسألة قبول الأرصدة الفلكية لأسباب ناتجة عن عدم الثقة بالعلم رغم أنه أكثر يقينية من الترائي الذي ثبت وهم الكثيرين فيه كما حصل قبل سنوات حينما تم الإعلان عن أن الهلال الذي ترائى للناس كان زحل مرة ومرة عطارد.
لا تكمن المشكلة في مجموعة الأفراد الواهمين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فليسوا في الأخير إلا أفرادا يحالون أن يتمثلوا النص الديني دون اعتبار لشروط الرؤية، أو حتى معرفة إشكالية النص والواقع التي لا غنى عنها لمن يتعاطى مع النص، حتى في العصور القديمة، فما بالك بالعصور الجديدة!!.
المشكلة تكمن في العقل الفقهي الذي ما تزال لديه الكثير من المشاكل مع العصر، وتبرز هذه المشكلة، أكثر ما تبرز، في قضية الأهلة حينما لا نجد في الفكر العربي من الفقهاء من يدعو صراحة إلى اعتماد الحسابات الفلكية في دخول الأشهر وخروجها لأنه محرج في تناول المسألة مابين النص الثابت، والواقع المتحول، وهي الأزمة التي تلقي بظلالها على خارطة الفكر الإسلامي منذ عصور طويلة، تجلت أكثر ما تجلت لدينا في أزمة الترائي العيني والحسابات الفلكية.
من عادة بعض الفقهاء في العصر الحديث في القضايا العلمية كالطب وغيرها أن يتم الاعتماد في الفتوى على رأي الطب قبل أن تصدر الفتوى، إضافة إلى المزاوجة بين الرؤى الاقتصادية والرؤى الفقهية في بعض المسائل المالية البنكية، لكن لا نجد مثل هذا التصالح في قضية ترائي هلال رمضان كل سنة، بل تبدو بعض الممانعة من الاعتماد على رأي الفلكيين في المسائل التي تخصهم رغم الدعوة إلى احترام التخصصات العلمية والشرعية من قبل مناكفي الآراء الجديدة التي لها علاقة بمسائل فقهية عصرية تأتي من قبل أناس غير شرعيين. لكن هذه الدعوة يتم نقضها في المسائل العلمية التي تحتاج شهادة العلماء التطبيقيين كعلماء الفلك والجرأة عليهم في تجاوزهم، وعدم اعتماد آرائهم. الأمر الذي جعل هناك هوة كبيرة بين علماء الفلك والعلماء الشرعيين، وهي أزمة تمتد من الأهلة إلى أن تتوسع مع أزمة من العلوم جميعها، لكنها تشتد في تلك المسائل العلمية التي تتقطع بشكل مباشر أو غير مباشر مع القضايا الدينية.
لا أفهم تلك الممانعة الفقهية من الاعتماد على العلماء الفلكيين في تقدير حسابات الاقتران القمري، رغم قبولهم ببعض الأدوات الحديثة كالمناظير اليدوية، إلا كون هذه الممانعة في أصلها أزمة في رؤية العلم نفسه وإحراجه للفكر التقليدي الذي يعتمد ظاهر النص دون مقاصده الكبرى، أو أن النص الذي يأمر ليس بالضرورة هو نص ينهى حسب بعض أصول الفقه التي يختص بها فقهاء الشريعة، أو ما يسمى في العصر الحديث بالمسكوت عنه، والذي يمكن إدخال قضية الحسابات الفلكية فيه إلى جانب الرؤية العينية بشرط عدم تعارضها مع الحساب الفلكي في قطعياته حسب مصطلحات علماء الفلك.
إن التجديد في الفقه المعاصر يحتاج تجديدا في الآليات المعرفية الفقهية بمعنى اجتراح آليات جديدة يمكن استنباط الأحكام الشرعية والفتاوى بها، من خلال أدوات قراءة النص في العصر الحديث، وعدم الوقوف عند مرحلة الأصول الفقيهة القديمة كونها وضعت في عصر تختلف آلياته المعرفية عن هذا العصر، ولنا في بعض الدول الإسلامية عبرة في كونها حلت مشكلة التقويم الإسلامي كماليزيا وتركيا باعتماد الحسابات الفلكية.