الرعاية الخاصة للنخبة

عادل بترجي

تهتم غالبية المجتمعات المتقدمة ثقافيا بنخبها تربية وتعليما منذ سن مبكرة، وحتى أن تستكمل الدورة التعليمية المنتهية بشهادة الدكتوراه، ولهذا الاهتمام سبب وجيه، إذ ثبت أن نخبة المجتمع، هم الفئة المنتجة فيه في غالبية المجالات التي تضيف للناتج القومي. الدراسات العلمية في هذا المجال تشير إلى أن الدول التي يزيد معدل ذكاء النخبة فيها على 120 نقطة، تقدم للبشرية أفضل إنتاجها العلمي في جميع المجالات تقريبا. من ذلك ما تشير إليه إحصائيات براءات الاختراع لكل مليون نسمة للفترة من عام 1991 إلى 2007؛ إذ حققت أستراليا 321 براءة اختراع، وكندا 212، وفنلندا 198، وهونج كونج 232، واليابان 502، ونيوزيلندا 557، وسنغافورا 910، والولايات المتحدة الأمريكية 273، وهناك العديد من الإحصائيات التي تؤيد هذه النتيجة، مما لا يتسع له المجال هنا.
الدارس لأدبيات رعاية نخبة المجتمع في الدول المشار إليها يجد نمطا متكررا ينتج في نهاية مطافه نخبة متميزة من العلماء، والباحثين، والصناع، والقادة، والسياسيين، الذين يقودون مجتمعاتهم إلى مراكز متقدمة بين الأمم. وتبدأ برامج رعاية النخبة من المرحلة الابتدائية، وتستمر حتى نهاية المرحلة الثانوية، ليبدأ برنامج آخر، يستمر حتى نيل شهادة الدكتوراه. اهتمامي هنا ينصب على مرحلة التعليم العام؛ حيث أطبق في أحد هذه البرامج الذي تعتبر جزءا من «النموذج التام لرعاية الموهبة» خلاصة تجارب أبحاث سنوات طويلة شخصية، ولدول متقدمة ثقافيا.
يهدف البرنامج إلى تعزيز القدرات التطويرية لدى طلاب النخبة المستهدفين، والمتمثلة في: المهارات الاجتماعية، وتفعيل التوجه والرؤية والاندماج الاجتماعي، وتعزيز الثقة والاعتداد بالنفس، وتعزيز الشعور الإيجابي نحو الذات والآخرين، وتطوير الجوانب الإيمانية وترسيخها، وتحفيز الرغبة نحو التعلم، وتحقيق الأهداف الأكاديمية، والتكيف مع التغيرات البيولوجية والانفعالية المصاحبة لمراحل النمو الجسدي، وتعزيز المهارات التي لها علاقة بالأهداف العملية والمتمثلة في: توسيع أفق طلاب الشريحة المستهدفة نحو الخيارات المهنية المستقبلية، وتطوير مهارات التعلم الذاتي، وتطوير المهارات الحياتية، وتطوير نطاق المعرفة الحياتية، ومهارات مجالات الأعمال، وتعزيز المعارف المتخصصة، والمتمثلة في: تطوير معرفة طلاب الشريحة المستهدفة ومهاراتهم في أحد مجالات الحرف والفنون، وتطوير معرفة ومهارات طلاب الشريحة المستهدفة في واحد أو أكثر من المجالات الأكاديمية، وتطوير مهارات التعلم، وتعلم كيفية التعلم.
وتستخدم برامج رعاية النخبة وسائل متعددة في تحقيق أهدافها، منها: القراءة الموجهة مع التلخيص والنقاش، تطبيقات عملية لتنمية المهارات التي يستهدفها البرنامج، مثل: مهارات التفكير الناقد، والتفكير الابتكاري، والتفكير التحليلي، وحل المشكلات، والتربية القيادية، والنمذجة لشخصيات قيادية ناجحة في المجتمع، والبحث العلمي لقضايا علمية واجتماعية تهم المجتمع، والتوجيه الأكاديمي والتخطيط الاستراتيجي للمستقبل المهني، والرحلات المحلية والخارجية التي توسع مدارك وثقافة الطلاب المشاركين، وتوفر الفرصة لهم لتطبيق ما تعلموه من مهارات عمليا.
وتتطلب رعاية النخبة، وجود التربوي الحصيف، الملم بالمستجدات في برامج الرعاية الحديثة، الباحث الدقيق المطلع والمطبق للنتائج البحثية، الراعي الحاني الحريص على مستقبل النخبة، وعلى توظيف قدراتها لصالح الوطن والإنسانية، وفوق ذلك كله المسلم المتزن الملم بقضايا الأمة والمجتمع، وأساسيات الدين وفروعه، وفقه الواقع وتداعياته. إن مسؤولية رعاية النخبة مسؤولية جسيمة، قام بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير قيام وأكمله، وجاءت من بعده أعداد كبيرة من التربويين الذين ساروا على الدرب، واجتهدوا في تحديثه ليواكب العصور التي عملوا فيها، فكان نتاج ذلك أمة تألقت مخرجاتها في نفع البشرية لا تزال العلوم العصرية تنهل منها، وتبني على قواعدها. ولما فات أمتنا ركب الحضارة، وتخلفنا حتى أصبحنا في مؤخرته، أصاب الحضارة الحديثة فراغ روحي مخل، لا يملأ فراغه إلا حضارة الأمة المسلمة التي لا تزال تنتظر النخبة من أبنائها؛ ليدفعوا بها إلى مقدمة الأمم.