الرئيس أوباما وضباب الحرب السورية

علي حسن التواتي

ظهر مفهوم ضباب الحرب لأول مرة في الأدبيات التحليلية سنة 1837 في كتاب (في الحرب) لواحد من أشهر ثلاثة منظرين عسكريين في التاريخ هو المحلل العسكري البروسي (كارل فون كلاوزفتز) ويعني به «الغموض وعدم الإحاطة بتفاصيل وتطورات المواقف التي يواجهها المشاركون في العمليات العسكرية». ولقد تعرض هذا المفهوم للتشويه من بعض المحللين الأجانب والعرب، ربما بسبب نقص الخبرة أو عدم الإحاطة بالمفهوم الذي لا يقتصر في تعريفه على القادة العسكريين، ولكن كل من لهم علاقة بالعمليات العسكرية بمن فيهم أصحاب القرار من السياسيين والإعلاميين وغيرهم. وضباب الحرب حالة مصاحبة للعمليات العسكرية وليست حالة وصفية تاريخية لما جرى بعد انتهاء العمليات. ولتبسيط المفهوم أذكر بخطاب الرئيس أنور السادات في 13 يناير 1972 الذي برر فيه عدم الوفاء بوعده في جعل عام 1971 عام الحسم مع إسرائيل باندلاع الحرب الهندية الباكستانية من منطلق أن العالم ليس فيه متسع لاندلاع حربين كبيرتين في آن واحد، وأن الحليف السوفيتي كانت تشغله الحرب الهندية الباكستانية للحد الذي لا يستطيع فيه تقديم مساعدة لمصر، وأن هذه الحالة كـ(الضباب الذي يعيق القدرة على التحرك). ورغم ما تبع ذلك الخطاب من سخرية وتفسيرات متعددة إلا أن التاريخ يسجل للسادات أنه لم يقدم على حرب لم تستوفِ حينها الحد الأدنى من متطلبات الانتصار فيها.
أما التفسيرات لحالات الغموض بعد أن تضع الحرب أوزارها خاصة ممن كانوا من أصحاب القرار فيها فيدخل في باب الشهادة من أجل التاريخ من وجهة نظر من يدلي بها. ومثل هذه الحالة تنطبق على الفيلم التسجيلي (ضباب الحرب Fog of the War)، أحد عشر درسا من حياة مكنمارا: للمخرج الأمريكي المتألق (إيرول موريس) الذي فاز بجائزة الأوسكار سنة 2003. ويحاور من خلاله روبرت مكنمارا (1916 - 2009) لاستبطان رؤيته للقرن العشرين الذي كان طرفا مباشرا في صنع أهم أحداثه كوزير للدفاع في عهد الرئيس جون كنيدي وخليفته ليندون جونسون في الستينيات. ولقد كان الحوار ممتعا وثريا وأشبه ما يكون بالاعترافات والتكفير عن الخطايا، وأعطى تفسيرات للكثير من القرارات والأحداث الهامة كالأزمة الكوبية وحرب فيتنام وحتى قصف المدن اليابانية بالقنابل الذرية بعد أن وضعت الحرب أوزارها. وكل ما أدلى به ماكنمارا في حواره كان يدخل في باب ضباب الحرب أثناء احتدام المعارك، ولكنه الآن يدخل في باب التوثيق التاريخي القابل للإثبات أو للنفي.
واليوم يجد الرئيس أوباما نفسه في نفس موقف السادات سنة 1972 في ضوء خطابه يوم الأحد الأول من سبتمبر الذي أعلن فيه حاجته لتصويت الكونجرس على قراره بضربة عسكرية تأديبية محدودة لسوريا. فهو يعلم جيدا مدى خيبة الأمل التي تسبب بها لمعظم حلفائه وللشعب السوري ولذوي ضحايا هجمات الغازات السامة في سوريا. ولكنه يعلم أيضا أن مجلس العموم البريطاني أسقط توصية لرئيس الوزراء ديفيد كاميرون بالتدخل العسكري في سوريا ما يعني إحداث شرخ كبير في تشكيل تحالف دولي كافٍ لتجاوز مجلس الأمن الذي تقبع فيه روسيا والصين كقطاع الطرق على طريق الإجماع الدولي. ويعلم أن الهجوم الأخير على الغوطة الشرقية حدث بعد يوم واحد، كما لاحظ عدد من المراقبين، من مرور عام على تحديده لاستخدام الكيماوي في سوريا كخط أحمر يخوله التدخل العسكري، ما يعني أن وراء الأكمة ما وراءها. فلربما كان القرار باستخدام الكيماوي في هذا التوقيت بالذات قرارا يتخطى النظام السوري إلى قوى إقليمية وعالمية تريد استخدامه كطعم اختباري لمدى صيانته كرئيس لوعوده، ومدى جديته في تحذيراته التي أثبتت عدم مصداقية في الأزمة النووية الكورية الأخيرة وفي السقوط المدوي لحلفاء أمريكا في مصر وقرب سقوطهم في تونس وربما تركيا. وما يدعوني لترجيح هذا الاحتمال التصريحات القوية للرئيس بوتين بأن اتهام النظام السوري باستخدام الكيماوي (محض هراء).
ولذلك أرى أن الرئيس الأمريكي بدأ بخطابه الأخير مرحلة أكثر نضجا في محاسبة النفس والتروي في الاندفاعات الخطابية العاطفية التي وضعته في موقف لا يحسد عليه، فضباب الحرب السورية يزداد كثافة، ومستقبلها مفتوح على كافة الاحتمالات، وهو كرئيس بين خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يستند إلى سلطاته وينفذ ضربة محدودة لا يعلم إلى أين ستقود وربما تؤدي إلى إسقاط الثقة به كرئيس قبل انتهاء ولايته، أو أن يستصدر تفويضا من الكونجرس تشترك فيه كافة السلطات والمجاميع الأمريكية السياسية والتشريعية فينجو من تبعاته مهما تعاظمت ويتحمل الجميع مسؤولياته في مستقبل الأيام ويظهر هو شخصيا كرئيس منفذ لإرادة الشعب الأمريكي.

Altawati@gmail.com

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة