محكمة شرعية تـتـهـم موظفيها

بدر بن سعود

لم أستوعب كيف يمكن لكل هذه التجاوزات أن تحدث في مؤسسة عدلية، فقد نشرت صحيفة «الشرق» السعودية في عددها الصادر يوم الجمعة 13 سبتمبر، محتوى لتعميم ملفت صدر عن رئيس محكمة شرعيـة في محافظة سعودية، وحمل التعميم الموجه لمن يعملون تحت إدارته، قائمة فيها تسع مخالفات لواجبات الوظيفـة العامة أو هكذا فهمت، أبـرزها حـلق اللحية وتطويل الثـوب، والعمـل لمصلحـة بعض الأطـراف في الدعــاوى المنظورة، والكلام في الرياضة وفي أعراض الموظفين والمراجعين، وتقـديم تقارير صحية مفبركة، وعدم الالتزام بمواعيد الحضور والانصراف، وبين رئيس المحكمة أن تعميمه يأخذ صفة الإنذار الاستباقي قبل إقرار العقوبة النظامية بحق المخالفين.
الصحيفة قـالت بأن لديها وثائق تثبت صحة الخبــر، وتتحمل بالتـأكيد نتائج المبالغة أو التحريف، إن وجدت، والتعميم حدد مواصفات شكلية لمن قاموا بهذه التصرفات، وربط بينها وبين التجاوزات الإدارية وبعضها واضح وصريح، وحيد بقصد أو بدون قصد، أصحاب المظهر المختلف أو ربمـا أخرجهم من دائرة الاتهام، ولن يجادل أحد في وجاهة أسباب المعمم لو لم يقحم الثوب القصير واللحية في الموضوع، فلا أعتقد أنها من المؤهلات المطلوبة لشغل الوظائف الحكومية، وأستبعد وجود نص نظامي يعاقب عليها، ولا تستحق في أحسن الأحوال إلا وصف العرف أو العادة، مع الاعتراف بتأثيرها الاجتماعي في تحديد المواقف من الأشخاص والحكم مبدئيا بصلاحهم أو انحرافهم، والصورة النمطية لأهل الصلاح والاستقامة محكومة بمرجعيات تراثية وتاريخية، ولا بد من تراكم خبرات جديدة للإقناع بخطأ هذا التصور كقاعدة لإحسان الظن بالآخرين، وإعطائهم امتيازا سماويا لا ينسجم وطبيعة الكائنات الأرضية العاقلة، ومن الأمثلة المفيدة، تورط ملتحين في انحرفات مالية وسلوكية، وسقوط مصداقية الإخوان في مصر ودول الربيع العربي، واستثمار العاطفة الدينية في تجارة «الحلال» وفي بضائع لا يشترط فيها الذبح على الطريقة الإسلامية، وزراعة الحشيش المخدر وبيعه لـدعم الجماعات الإرهابية في أفغانستــان، وفي تمويل مقـاومة حزب الله في لبنان ضد إسرائيل، وقيامه بعمليات عسكرية في سوريا لخدمة المصالح الطائفية، وانتشـار بيوت المتعة وبائعات الجسد في شوارع إيـران، رغم ولاية المرشد وسيطرة الملتحين.
كما أن تصنيف الأشخاص بحسب أزيائهم وأماكن الشعر في وجوههم فيه تطرف، أو إن جاز التعبير طائفية وظيفية، وتقسيم للموظفين على طائفتين واحتكار وظيفي لهؤلاء وهؤلاء، والسابق يضاف لتفضيلات وظيفية مشابهة على أساس الانتماءات المذهبية أو الجنس أو الجنسية أو مصدر آخر مؤهل لطالب الوظيفة.
لن أناقش كثيرا شكل الإنسان الخارجي ومشكلاته المحلية، وسأفترض أنها لم تكن مقصودة، لأن الأهم في اتهامات التعميم هو القول بانحياز من يعملون في المحكمة لطرف ضد طرف، مع ما ينطوي عليه من تلميحات مربكة واحتمالات فساد وضياع حقوق، وفي مؤسسة ينظر إليها كملجأ لرفـع الظلم وتحقيق العدالة، وإذا تأكد بالدليل أن المتهمين استغلوا ما يعرفون بحكم وظائفهم، وانتهكوا أعراض الناس أو فضحوا أسرارهم، فالمسألة لا تحتاج إلى إنذار وإنما عقوبة مباشرة وكبيرة، ثم كيف نثق في نزاهة من يفبرك تقريـرا طبيا ويكذب على رئيسه ؟ وأين تقف حدود كذبه ؟ خصوصا عندما يعمل في محكمة شرعية ؟.
المخالفات المتبقية ليست مهمة ولا تضر إلا المخالفين وحدهم والإنذار يناسبها، والكلام في الرياضة أو إحضار «الآيباد» لا يعتبر من المحرمات الوظيفية الخطيرة، وحالة المحكمة المذكورة في خـبر «الشرق» السعودية لا تقبل التعميم، ولكنها وفي نفس الوقت تصف مشهدا قد يتكرر في بعض الدوائر الحكومية، والفارق أن الرقابة الأخلاقية مرتفعة في المحاكم الشرعية.