السحـر المغـيّـب للكلمـة المطبوعـة

شوقي بزيع

ليس من كاتب في مقتبل العمر عاش التجربة ثم وعاها إلا ويرغب في نشر أعماله على الملأ ، سواء تم ذلك في صحيفة أو مجلة أو كتاب. صحيح إن هناك استثناءات قليلة تتعلق بأولئك الذين يمرون عرضا بتجربة التعبير عن نوازع النفس واضطراماتها في زمن المراهقة، أو في حالات السفر والحب والفراق، ولا يرغبون في إخراج الخواطر التي يكتبونها إلى العلن، باعتبارها مجرد تنفيس إنشائي عن معاناة ظرفية وشخصية. لكن أكثر الذين يكتبون يطمحون إلى مشاركة الآخرين ما يكتبونه، وإلى رؤية أسمائهم متلألئة على أغلفة الكتب والدواوين التي يصدرونها. ذلك أن للكلمة المطبوعة في المخيلة الجمعية «مهابـة» ووقعا لا تمتلكها الكلمة المكتوبة بخط اليد. فالثانية يمكن أن تلازم الأدراج والمنازل ولا تجد من ينقذها من النسيان. أما الأولى فتهيء لصاحبها مكانة بين الجمـع، وسبيلا إلى النجومية، وإحساسا «افتراضيا» بالخلود .. لكن للكلمة المطبوعة وجها آخر يتعلق بخوف الكاتب من الخطى المتهورة والتسرع الاعتباطي في النشر. فالكتاب ما أن يصدر حتى يخرج من عهدة صاحبه ويواجه أعزل ، إلا من قوة الكلمات، قـراء غير مرئيـين يمكن أن يأخذوه على محمل الإعجاب والتقريظ، ويمكن أن يجدوه خاليا من القيمة ويلقوا به في سلة المهملات. أما الزمن الذي ينتظر دوره في الخلف فهو الأشد قسوة من سواه، بحيث لا يمنح جواز الخلود إلا لقلة من المبدعين. لا بد للمرء في هذه الحالة أن يقف حائـرا إزاء الخفة التي يتعامل بها الكثيرون، كتابا ودورا للنشر، مع الكلمة المطبوعة والإصدارات التي يتم تلفيقها على عجل. فبالنسبة للكتاب الجدد يبدو معظمهم، عدا استثناءات قليلة، متعجلا في طلب الشهـرة والانضمام إلى نادي «الخالدين» . إذ سيكفي في هذه الأيام تلفيق بعض بضع جمل مختلسة من الدواوين العربية والأجنبية لكي يهـرع الشاعر المزعوم إلى أقرب دار للنشر من أجل نشر غسيله على الملأ. والأمـر نفسه ينسحب على الرواية والقصة والمجالات الأخرى. أما الشعور بالتهيب والحذر فقد بات ينتمي إلى زمـن غـير هذا الزمن. وأما الخوف من سلطة النقد فقد تراجـع منسوبه إلى الحدود الدنيا بعد أن أصبحت الفوضى سيدة الموقف، ولم يعد أحد يكترث بما تضخه المطابـع من غثاء. على أن ما يبعث الحزن في النفس هو انحدار معظم دور النشر إلى حضيض الجشـع المادي والربـح المجرد. إذ يكفي أن يدفـع صاحب الإصدار ما يفيض قليلا عن كلفة الكتاب حتى يجد كتابه طريقا سريعا إلى النشر.. أعـرف أن الأمر لا ينطبق على الجميـع، وأن بعض الدور ماتزال تحافظ على سمعتها وتستعين بلجان متخصصة لإجازة ما ينشر، ولكن هؤلاء ليسوا سوى قلة قليلة وسط تهافت هذا القطاع وجشـع العاملين فيه.