العمى والكتابة
الجمعة / 27 / ذو الحجة / 1434 هـ الجمعة 01 نوفمبر 2013 19:44
شوقي بزيع
لطالما كان الليل هو الملهم الأهم للكتاب والشعراء، وهو القابلة الملائمة لكل الولادات الأدبية الحقيقية. وليس غريبا بأي حال أن يجد المبدعون في الليل ضالتهم المنشودة وينقبوا في أحشاء عتمته عن ضوء الكلمات المختبئ في الأعماق. فالكتابة والحب وجهان لشغف واحد، والكاتب يخلد إلى لغته، كما يخلد الحبيب إلى حبيبه. وكلاهما يقتلهما الضوء المبهر ويشتت حاجته إلى الصمت والانخطاف ونسيان الخارج. وفي دور السينما تحول الستائر المسدلة في الخلف بيننا وبين الحياة الواقعية التي تتم في الخارج، متيحة لنا أن نندمج بشكل كلي في الحيوات البديلة التي تدور أمامنا على الشاشة. وحين أطلق الشاعر اللبناني صلاح ستيتية تسمية «ليل المعنى» على أحد كتبه، فقد كان يشير إلى الحقيقة نفسها، حيث لا بد للشاعر أن ينقب عن المعنى في أغوار نفسه الباطنية، بعيدا عن بهرجة السطوح وأضواء الخارج الخلبية. وحين تهتف أم كلثوم في إحدى أغنياتها «ثم أغمض عينيك حتى تراني»، فهي تريد للرؤية أن تتعدى حدود الحواس لتنفذ إلى المتخيل وغير المرئي والمحلوم به.
ولو لم تكن لليل طاقة الإيحاء العالية تلك لما قدر لبعض المصابين بالعمى أن يتربعوا على عرش الكتابة في العالم، وأن يتركوا لنا كتبا وملاحم وإبداعات يقصر عن بلوغها الكثير من المبصرين. يكفي أن نتذكر في هذا السياق الشاعر الإغريقي هوميروس الذي ما تزال رائعتاه الشهيرتان «الإلياذة» و«الأوذيسة» أيقونتي الشعر الملحمي عبر العصور. لا بل إن البعد المشهدي الباذخ في العملين يجعلنا لا نكاد نصدق بأن شخصا أعمى يمكن له أن يجترح من داخل ظلامه الخاص كل ذلك الفضاء المشمس والرافل بالألوان.
الأمر نفسه ينسحب على الشاعر العباسي بشار بن برد الذي احتفى بالمرأة والحب والجمال أشد الاحتفاء، والذي أجرى عملية تبادل بين الحواس تترك للأذن أن تحل محل العين، وتتلمس بالنيابة عنها مفاتن الأنوثة وتجلياتها، وهو القائل «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة/ والأذن تعشق قبل العين أحيانا». ولا بد أن نستعيد تجربة أبي العلاء المعري الذي لم يمنعه العمى من رفد الشعرية العربية بكل ما يلزمها من أسباب التقصي المعرفي واكتناه الأسرار والتأمل في معنى الوجود ومآله. وينسحب كذلك على الكاتب الأرجنتيني بورخيس الذي اعتبر أن الله تعالى منحه الليل والكتابة في آن واحد، وأنه في ضوء الكلمات فقط استطاع أن يقهر العتمة والصمت وينتشي بشمس الوجود الحقة. ولا بد أن نستعيد أخيرا التجربة الرائدة لعميد الأدب العربي طه حسين، الذي نحتفل اليوم بالذكرى الأربعين لرحيله، والذي لم يحل عمى عينيه دون تحوله إلى أحد أكثر الوجوه استنارة وخلخلة لليقينيات في العالم العربي. ولم يكن غريبا تبعا لذلك أن يهتف به نزار قباني ذات يوم «إرم نظارتيك، ما أنت أعمى/ إنما نحن جوقة العميان».
ولو لم تكن لليل طاقة الإيحاء العالية تلك لما قدر لبعض المصابين بالعمى أن يتربعوا على عرش الكتابة في العالم، وأن يتركوا لنا كتبا وملاحم وإبداعات يقصر عن بلوغها الكثير من المبصرين. يكفي أن نتذكر في هذا السياق الشاعر الإغريقي هوميروس الذي ما تزال رائعتاه الشهيرتان «الإلياذة» و«الأوذيسة» أيقونتي الشعر الملحمي عبر العصور. لا بل إن البعد المشهدي الباذخ في العملين يجعلنا لا نكاد نصدق بأن شخصا أعمى يمكن له أن يجترح من داخل ظلامه الخاص كل ذلك الفضاء المشمس والرافل بالألوان.
الأمر نفسه ينسحب على الشاعر العباسي بشار بن برد الذي احتفى بالمرأة والحب والجمال أشد الاحتفاء، والذي أجرى عملية تبادل بين الحواس تترك للأذن أن تحل محل العين، وتتلمس بالنيابة عنها مفاتن الأنوثة وتجلياتها، وهو القائل «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة/ والأذن تعشق قبل العين أحيانا». ولا بد أن نستعيد تجربة أبي العلاء المعري الذي لم يمنعه العمى من رفد الشعرية العربية بكل ما يلزمها من أسباب التقصي المعرفي واكتناه الأسرار والتأمل في معنى الوجود ومآله. وينسحب كذلك على الكاتب الأرجنتيني بورخيس الذي اعتبر أن الله تعالى منحه الليل والكتابة في آن واحد، وأنه في ضوء الكلمات فقط استطاع أن يقهر العتمة والصمت وينتشي بشمس الوجود الحقة. ولا بد أن نستعيد أخيرا التجربة الرائدة لعميد الأدب العربي طه حسين، الذي نحتفل اليوم بالذكرى الأربعين لرحيله، والذي لم يحل عمى عينيه دون تحوله إلى أحد أكثر الوجوه استنارة وخلخلة لليقينيات في العالم العربي. ولم يكن غريبا تبعا لذلك أن يهتف به نزار قباني ذات يوم «إرم نظارتيك، ما أنت أعمى/ إنما نحن جوقة العميان».