الشمس والمرايا

شوقي بزيع

كانت الشمس ولا تزال رمزا ساطعا لكل ما يتصل بالنور والدفء والطاقة وتجديد الحياة على الأرض. فهي النجم الذي تدور حوله الكواكب وينظم حركة الفصول، ويتحدد في ضوء دوران الأرض حوله مسار الزمن. ولهذه الأسباب وغيرها عبدها بشر كثيرون، قبل أن تهديهم الأديان السماوية إلى عبادة الله تعالى بوصفه أساس كل وجود وخالق الكون برمته وواهب الحياة للأحياء. ومع ذلك فقد ظلت الشمس قبلة أنظار الخليقة والمحدد لسلوكيات الناس وطباعهم ومقدار حيويتهم أو بلادتهم، كما لتعبيراتهم الإبداعية ونشاطهم الروحي والجسدي. والغرب الحديث الذي تفوق على الشرق في مضامير العلم والتكنولوجيا والتطور الحضاري والعمراني، ظل يغبطه على وفرة شموسه التي تبهج القلب وتنعش الجسد وتشيع في النفوس فرح الانتشاء بالحياة. وقد ذهب البعض تبعا لذلك إلى ربط الغرب بالفكر والتيقظ الذهني وإعمال العقل، وإلى ربط الشرق بالحدوس القلبية والإشراق الباطني واضطرام العاطفة.
لم يكن غريبا ــ تبعا لذلك ــ أن يربط البعض بين ميل البريطانيين إلى التجهم والكآبة وبين الضباب شبه الدائم الذي يغلف عاصمتهم ويسدل ستارا سميكا بينهم وبين الشمس التي نادرا ما يبصرونها بالعين المجردة. ولم يكن غريبا ــ من جهة أخرى ــ أن يجد الانطباعيون في ضوء الشمس وانعكاسه على الطبيعة وكائناتها الظهير الأهم لحركتهم الرائدة التي تركت أبلغ الأثر في التشكيل المعاصر. لعل الخبر اللافت الذي تناقلته وكالات الأنباء العالمية قبل أيام حول قرية ريوكان النرويجية التي تقع في منخفض أرضي يجعلها رهينة دائمة للعتمة والبرد، والتي عمد أهلها إلى تثبيت مرايا هائلة فوق رؤوس الجبال تمكنهم عبر انعكاس ضوء الشمس على سطوحها من الحصول على حصتهم من الضوء والدفء، إنما يعبر بوضوح عن حاجة البشر الملحة إلى الشمس الأم التي يوقعهم احتجابها في الحزن والإحباط والجنوح إلى التشاؤم.
إلا أن الحادثة على غرابتها لم تفاجئني تماما على المستوى الشخصي. ذلك أن حادثة مماثلة وربما أكثر غرابة قد حدثت قبل عقود ثمانية في قريتي الصغيرة في الجنوب اللبناني. فقد حدث أن أربعة من أبناء القرية الزراعية الفقيرة أصروا على ركوب البحر المقابل للقرية والسفر إلى أفريقيا من أجل الحصول على لقمة العيش. وحين غادر المركب ميناء صور وشق عباب البحر عمد السكان إلى اقتلاع مرايا الخزائن، ثم صعدوا إلى سطوح بيوتهم وأخذوا يلوحون بها قبالة المهاجرين الذين حملت إليهم المرايا وهج شمس الجنوب وكل ما تختزنه من ذكريات وترجيعات ونيران لاهبة. لم يستطع المهاجرون الذين هالهم ما رأوه مقاومة ذلك الوهج الأسطوري للتراب المتنائي، ولذلك فإن ثلاثة منهم عادوا من مرفأ الإسكندرية باتجاه الوطن، أما الرابع الذي واصل الرحلة فقد قتلته الملاريا، أو لعله مات مطعونا بلعنة التراب الأم الذي لم يستجب لنداءاته. وفي ضوء تلك الحادثة الغريبة، كما حادثة النروج الأخيرة، يثبت البشر العاديون أنهم قادرون على اجتراح أساطيرهم بأنفسهم، وأنهم يمتلكون مخيلات سوريالية لا تقل غرابة عن مخيلات الشعراء.