ثقافة المناصب

حسن النعمي

عندما يتقلد امرؤ منصبا ما، فأهله ومعارفه وأحباؤه يتهافتون لتهنئته بهذه الثقة، ولاختياره دون سواه، ولتشريفه بهذه المنزلة، وهو ــ بدوره ــ يرد متصنعا التواضع.. هذا تكليف وليس تشريفا. اللغة الضائعة هنا يمكن قراءتها في سياق ثقافة المناصب في مجتمعنا. فمبدأ الثقة في التعيين للمناصب مقدم على مبدأ الكفاءة في الغالب. وعليه فاختيار شخص لمنصب معين لا يبعد أن يكون مبدأ الثقة مقدما على كل شيء، حتى الكفاءة المهنية والإدارية لا يعتد بها في الغالب، وإن حضرت فهي ربما توافق غير مقصود. أما أن المنصب تكليف وليست تشريفا، فهو تكليف من حيث هو مسؤولية، لكنه في نظر من تقلده أنه حصل على شرف كبير قد لا يستحقه.
في اللغة المنصب يعني المقام، وشأن المقامات في عالمنا العربي شأن كبير، فبها ومن خلالها ينتفع المرء أيما انتفاع، ينتفع أهلوه وعشيرته والأقربون، ولكنها منافع في النهاية تعود له بطرق مختلفة.
والمنصب في حقيقته ليس إلا مسؤولية تجاه الغير، تجاه البلاد والعباد، واستشعار هذه المسؤولية ضرب من المستحيل في الغالب، لأن المنصب منحة وليس انتخابا أو عن كفاءة تعكس مدى الحاجة لملء هذا المنصب. وعليه لن يكون صاحب المنصب فاعلا إلا عندما يخضع للمساءلة والمحاسبة والمراجعة. في عالمنا المنصب يحمل كل شيء إلا مسؤولية العمل. فصاحب المنصب يخيل له أنه يعمل، لكن الآخرين لا يرون إنجازاته العظيمة، يخيل إليه أنه يعمل، لكن الحاقدين لا يدعونه يهنأ بمصبه ولو لسنوات قليلة دون أن يناكفوه.
في الدول المتقدمة المنصب مجرد وظيفة مرهونة بالإنجاز، وأي إخلال بالأمانة يتبعها محاكمة وعقوبة إن ثبت إخلاله بالتزامات الوظيفة، أما في عالمنا العربي فعندما يسوء الأمر، فالأغلب يتم إعفاء صاحب المنصب وعفا الله عما سلف.
عندما يتقلد صاحب المنصب منصبه لا يبادر إلى فهم طبيعة العمل، ووضع استراتيجية للبدء في تطوير إدارته وما يتبعها من مرافق، بل يبادر إلى إنشاء إدارة إعلام وعلاقات عامة على أعلى مستوى للدفاع عنه وعن خططه التي تستهلك المال العام دون جدوى. لو كان منصبه جاء عن طريق كفاءة لفكر في كيفية الإنجاز أولا، وترك لمنجزاته على أرض الواقع لتدافع عنه، لكن لأن الثقافة السائدة من وراء المناصب هي الكسب من المنصب في الزمن المتاح خير من العمل دون تأمين المستقبل بعد الخروج من المنصب. في هذه الثقافة، المنصب مغنم وفرصة ثمينة لا تعوض، وكأن قاعدة هذه الثقافة تؤكد.. لا للعمل.. نعم للكسب.
عندما يتطلع المراجعون لحل مشكلاتهم يضطرون لطرق باب صاحب المنصب لعل لديه الحل السحري لكل مشاكلاتهم، فهو يحتفظ بالقرار الأخير ولا يعطي هذه الصلاحية حتى لنوابه أو وكلائه خشية من أن تنفض عنه هيبة المنصب. في الفكر الإداري الحديث يتم تفتيت المركزية واستبدالها بموظفين تنفيذيين يخدمون توجهات الإدارة العليا في إنجاز أعمال ومصالح المراجعين دون أن يضطر المواطن إلى تجاوز عشرات الموظفين لحل مشكلته ليصل إلى صاحب المنصب الرفيع. هذه الثقافة، ثقافة اللجوء إلى صاحب الحل، ثقافة تتنافى مع الفكر الإداري الحديث الذي يسعى لخلق بيئة مرنة تخلو من التعقيد الإداري الذي يضطر المراجعين للتكدس أمام باب صاحب المنصب. الشواهد في مجتمعنا كثيرة، في الجامعات، والأمانات، ومعظم المرافق الخدمية.
ولنتخلص من عقدة المنصب يتوجب تغيير الفكر الإداري في مجتمعنا، سواء من قبل المسؤولين أو من قبل المراجعين. وألمس في بعض الجهات الخدمية تطورا باتجاه تقديم خدمات إدارية بعيدا عن هالة المنصب والاضطرار إلى مراجعة صاحب المنصب شخصيا. في تجربة الأحوال المدنية، وتجربة نظام أبشر في الجوازات، وقبلها نظام سداد، وربما غيرها ما يبشر بتغيير جوهري في الفكر الإداري في مجتمعنا، حيث المرونة في الإنجاز. ولتنجح فكرة الحكومة الإلكترونية يجب أن نحرر موقفنا من ثقافة المنصب الذي يراه البعض تشريفا ومغنما دون أن يقدم ما يشفع على أرض الواقع.