علينا اتخاذ الوعي الرقمي نقطة تحول في فهمنا للثقافة والسياسة
الكاتب العربي يكتب كما يتحدث دون تقيد بقواعد الكتابة .. يقطين لـ عكاظ :
الجمعة / 26 / محرم / 1435 هـ الجمعة 29 نوفمبر 2013 20:26
حاوره: محمد صبح
تقف الآداب الإنسانية الآن على أعتاب بلورة كتابة جديدة ما زالت قيد التشكل هي «الكتابة الرقمية». ورغم أن نصيب العرب من هذه المواكبة لا يقل عن حظوظ نظرائهم في العالم، إلا أن الإسهام في تأسيس قواعد «الكتابة الرقمية» يفرض عليهم تحديات ضخمة. بعضها نابع من ضرورة مراعاة التحول الذي تشهده عملية إنتاج النص حاليا في الانتقال من مرحلة النص المطبوع إلى النص الرقمي بفعل التأثر بتقنيات الحاسوب والفضاء الشبكي، وبعضها الآخر نابع من ضرورة امتلاك الوعي الرقمي والوفاء بالشروط التي تتطلبها عملية «الكتابة الرقمية». فهل يستجيب العرب لهذه التحديات؟.. حول ذلك أوضح لـ «عكاظ» أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالعاصمة المغربية الرباط الناقد الدكتور سعيد يقطين أن التزام العرب بقواعد كتابة النص المطبوع لا يزال بعيدا عن التحقق، وأن عدم التلاؤم بين المقام التواصلي والوسيط من بين أكبر المشاكل التي تعترض الكاتب العربي مبدعا أو دارسا، مشيرا إلى أن نشأة «الكتابة الرقمية» ارتبطت بظهور الوسائط المتفاعلة، لافتا إلى أن أسس «الكتابة الرقمية» قائمة على بعدين، الأول التقيد بقواعد الكتابة التقليدية، والثاني تصميم النص باعتباره «عقدا» و«روابط»، فإلى تفاصيل الحوار:
• أشرت في مفتتح إحدى دراساتك إلى أن تناول مسائل الكتابة الرقمية يقتضي تقييم الواقع الراهن للكتابة العربية حتى يسهل الانتقال إلى مرحلة الكتابة الرقمية وفق الشروط التي تتطلبها، وأجدها إشارة جديرة بالالتفات للتساؤل عن أسئلة الكتابة العربية الآن؟
ــ الكتابة العربية تحولت مع ظهور المطبعة، ولم تبق محافظة على سماتها التي ارتبطت بالكتابة الخطية. هذا التحول عرفته كل الكتابات القديمة بانتقالها إلى الطباعة. لقد برزت مع الطباعة تقنيات جديدة في الكتابة أكتفي منها بالإشارة إلى لعبة البياض والسواد على الصفحة، وعلامات الوقف، والتنظيم النصي. ومعنى ذلك أن أي وسيط جديد يستدعي متطلبات جديدة تتجاوز الإكراهات التي كانت تقيد عملية الكتابة في مرحلة سابقة. عرفت الكتابة العربية بعض التحولات التي فرضتها ضرورات الطباعة ومستلزماتها. لكن بوجه عام لم يتم التقيد بها. فعلامات الوقف لا تزال تطرح مشاكل بالنسبة للعديد من الكتاب والباحثين. ورغم أن هناك مواد تدرس حول مهارات الكتابة، ومصنفات في هذا الاتجاه؛ لكن التطبيق يظل بعيدا عن الالتزام بتلك التقنيات المدرَّسة أو المؤلفة. كما أن التنظيم النصي يعرف مشاكل عديدة لدى العديد من الدارسين والباحثين، حيث لا نجد التمييز بين الفقرات بحسب تسلسل الأفكار. وبناء الجملة يعرف أحيانا خللا كبيرا، بحيث تصبح الفقرة كلها جملة واحدة. وعلى مستوى التنظيم العام نجد النص كتلة واحدة بحيث تغيب العناوين الفرعية أو الأرقام التسلسلية، كل ذلك يبين أن «الكاتب» يكتب كما «يتحدث». بمعنى آخر أن الالتزام بقواعد الكتابة كما تطورت مع الطباعة لا يزال بعيد التحقق عندنا.
النص المترابط
• وماذا عن قواعد الكتابة الرقمية واستيعابنا لها؟
ــ الكتابة الرقمية عرفت بدورها تطورا مع ظهور الوسائط المتفاعلة، ولا يمكننا ممارستها على النحو الأمثل بدون توظيف ما فرضته الطباعة إلى جانب ما تستدعيه الكتابة التي يتم التواصل معها من خلال الشاشة. ولعل أهم مقوماتها يكمن في الإيجاز الذي يضمن وصول كل ما يريده الكاتب بدون إخلال بأهم ما يريد توصيله وإبلاغه. ولا يمكن أن يتحقق الإيجاز في الكتابة بدون ممارسته في الشفاهة. ويكفي المرء أن يشارك في أي ندوة عربية حول أي موضوع ليجد نفسه أمام محاضرين عاجزين عن تلخيص أفكارهم في ربع ساعة، ويتذرعون دائما بالوقت الذي لا يسمح لهم بـ«قراءة» ما كتبوه رغم أنهم في مقام تواصلي يستدعي الشفاهة. إن عدم التلاؤم بين المقام التواصلي والوسيط من بين أكبر المشاكل التي تعترض الكاتب العربي مبدعا أو دارسا. وبدون تحقيق، ما أسميه «الملاءمة الوسائطية»، سيكون الانتقال إلى الكتابة الرقمية محملا بكل المشاكل التي لم يتم حلها مع الكتابة ما قبل الرقمية إجمالا.
• قبل الولوج إلى قضايا الأدب التفاعلي، يحسن أن توضح لنا جوانب العلاقة العضوية بين النص التفاعلي الأدبي والنص المترابط hypertext والشروط التقنية التي يؤسس بها الثاني لقواعد الأول؟
ــ سؤال دقيق، وهو يحيلنا إلى ما قلناه عن الكتابة الرقمية. إن التصور الرقمي يدفع إلى اعتبار النص، أيا كان جنسه أو نوعه، مجموعة من الشذرات التي نربط بينها بواسطة روابط محددة ومعينة. ومن هنا جاء نعت النص المتصل بالوسائط المتفاعلة بـ «النص المترابط»، عكس النص بمعناه التقليدي. هذا المعنى هو الذي أعطاه مبتكر هذا المفهوم، تيودور نيلسون (1965) حين كان يجد نفسه أمام ركام هائل من «الوثائق» المتنوعة؛ وكان يفكر في التعامل معها بكيفية مرنة وسهلة. فاهتدى إلى ضرورة اتخاذ سمة الربط بينها بواسطة «روابط»، تيسر عملية الانتقال بين تلك الوثائق من داخلها. هكذا اقترح مفهوم «Hypertext» للنص المبني على هذه الكيفية. أما علاقة هذا النص المترابط بالتفاعل فتكمن في تجاوز «خطية» النص التقليدي الذي كان يتفاعل معه المتلقي عن طريق قراءته إياه من البداية إلى النهاية، محاولا من خلال عملية القراءة هذه أن يبني المعنى من خلال إعادته بناء النص في ذهنه. أما مع النص المترابط فيأخذ التفاعل بعدا آخر. إن تجاوز الخطية في عملية القراءة، يتيح للمتلقي التنقل في النص بحرية أكثر، إذ كلما وجد «روابط» يمكنه أن ينشطها لينتقل في النص، بكيفية تتلاءم مع عملية القراءة التي يقوم بها، فيعود إلى رابط سابق، وقد يواصل عملية القراءة دون تنشيط كل الروابط. الحصيلة هي أن القارئ يخلق «نصه» الذي «يتفاعل» معه من خلال ما يقدمه له النص المترابط من إمكانيات. وكل نص مترابط يقرؤه المتلقي بكيفية مختلفة عن متلق آخر. بل هو نفسه يقرأ النص عينه مرات مختلفة بكيفيات مختلفة. هذا التحول يجعل صلة التفاعل أكثر تطورا بالنص المترابط عما كانت عليه في مراحل سابقة.
البلاغة الرقمية
• يبدو من حديثك أن «التفاعلية» تعد أبرز سمات الأدب التفاعلي، فماذا تعني؟ وما مستوياتها بالنسبة لمكونات النص التفاعلي؟
ــ تعني التفاعلية، وفق ما رأيناه في الجواب السابق، مشاركة المتلقي في بناء النص وفق اختياراته، وليس وفق ما تفرضه عليه أحادية النص وخطيته. وهذه المشاركة تجعل المتلقي «فاعلا» أي منتجا، وليس فقط منفعلا أو «مستهلكا» سلبيا. أي أن المتلقي صار يقوم بدور المنتج أيضا.
• أشرت إلى أن هناك أسسا للكتابة الرقمية، فما هي؟ وما أوجه اختلافها الجذري عن الكتابة المطبوعة؟
ــ يمكننا التمييز في الكتابة الرقمية، في رأيي، بين مستويين: الأول ذو بعد نصي، أي يتعلق بكيفية «كتابة» نص يخضع بدقة لقواعد الكتابة التقليدية، بنية الجمل، علامات الوقف، وتضاف إلى ذلك حرصه على تقديم النص وفق بلاغة جديدة (هل نحن أمام بلاغة رقمية؟) تعتمد الإيجاز، ركيزة أساسية، وتعمل على تجاوز كل المشوشات التي تحول دون التواصل مع المتلقي. أما البعد الثاني، فيتصل بالتنظيم النصي، أي كل ما يتصل بتصميم النص باعتباره «عقدا» و»روابط». فتكون العقد مبنية بشكل «شذري» مدروس، وتكون «الروابط» دقيقة، لا كثيرة فتشوش عملية الانتقال، ولا قليلة، فتحول التلقي إلى القراءة الخطية.
العقد والروابط
• ذكرت في معرض إجابتك عن السؤال السابق أن النص الرقمي يتشكل من «عقد» و«روابط»، فما تعريفهما؟ وما الفارق التكويني بين بنية النص التفاعلي والنص ما قبل الرقمي الذي ذكرت بمشروعك النقدي أنه يتكون من بنيات وعلاقات؟
ــ تتعلق المسألة هنا بالاصطلاح. فكل علم، أو نظرية، يجترح له مفاهيمه ومصطلحاته الخاصة به والتي تتلاءم مع ترسانته النظرية والمنهجية الجديدة. فإذا كانت العلوم الأدبية، في المرحلة البنيوية، انتهت إلى اعتبار النص يتشكل من بنيات تربط بينها علاقات، نجد المشتغلين بنظرية النص المترابط، لا يتعاملون فقط مع النص الأدبي، بصورة حصرية، ولكن مع «الوثائق» أو «البيانات» بغض النظر عن جنسها أو نوعها. فكل ما يتم ترقيمه والتعامل معه من خلال الوسائط المتفاعلة «بيانات». هذه البيانات ستعتبر بمثابة «عقد» (nodes). والعقدة كتلة نصية يتم الربط بينها وبين كتلة نصية أخرى، سواء أكانت تلك الكتلة من جنسها أو من غيره، بواسطة «روابط»(links)، ولأضرب مثالا على ذلك، سنعتبر الشاهد في النص، مثلا، بمثابة «عقدة»، ونتعامل مع «رقم» الهامش الموضوع في نهايته على أنه «رابط»، وعندما نتأمل ما يحيل إليه رقم الهامش نجده ينقلنا إلى «عقدة» أخرى، وهكذا دواليك.
• هل يمكن الانطلاق من هذه التوطئة أو التساوق معها بالأحرى، أقصد تعريفك لـ«العقد» و«الروابط»، للتساؤل عن المراحل التي يمر بها تشكيل النص التفاعلي؟
ــ سؤال في غاية الأهمية، وهو مدار علاقة الوسائط المتفاعلة بالإبداع التفاعلي بصورة عامة. ويتطلب الجواب عنه مؤلفات وليس جوابا في صحيفة. ولعل مدخل ذلك هو التفريق بين النص والنص المترابط، والمرقم والرقمي: أي أننا مطالبون بالوعي الرقمي إجمالا. ولا يمكن أن يتحقق هذا الوعي بدون إدراك طبيعة الوسائط المتفاعلة وطبيعتها ووظائفها. إننا لا نزال نستعمل الحاسوب، فقط بديلا عن الآلة الكاتبة؟ كما أننا نستعمل الهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية وكأنها فقط تجميع لأدوات تكنولوجية متعددة تسمح لنا بالاتصال مع الآخر، والتواصل معه (الهاتف)، أو لسماع الموسيقى (آلة التسجيل)، أو لمشاهدة الأفلام وتصويرها (الفيديو)، في حين أننا لا نستعمل هذه الوسائط الجديدة مستغلين كل الإمكانيات التي توفرها لنا. ويدل هذا على غياب الوعي الرقمي لدينا، ومعناه عدم الارتقاء إلى ملاءمة حاجياتنا مع وظائف الوسيط وإمكاناته الهائلة. فالشاعر يكتب قصيدته كما كان يفعل قبل تعامله مع هذا الوسيط. وعندما ينتهي منها، بدل أن يبعث بها إلى الجريدة أو المجلة، ينشرها أو يعممها على صفحات الفايسبوك؟ ويدعي أنه «شاعر رقمي»، وأنه لا يتعامل مع الورق، وأنه تجاوز المرحلة الورقية؟ إنه بدون مراعاة شروط الكتابة الرقمية لا يمكننا أن ننتج نصا رقميا، وبذلك لا يمكننا الارتقاء إلى الإبداع التفاعلي. إننا نكتب نصوصنا بوعي لا رقمي، ونرقمها مدعين أننا رقميون.
الحذق المعلومياتي
• انطلاقا من إشارتك إلى أهمية الوسائط المتفاعلة في إجابة السؤال السابق، ما أهمية البعد التقني المعلومياتي في إنتاج النص التفاعلي وتلقيه؟ وما متطلبات اكتساب المعرفة المعلومياتية الأساسية لإنتاج وتلقي النص التفاعلي، ولا سيما أنك عزوت التأخر في إنتاج النص التفاعلي عالميا إلى هذا الحاجز المعلومياتي؟
ــ في كتاب «من النص إلى النص المترابط»، صدرت الباب الثالث والذي يحمل عنوان: الإبداع العربي وآفاق المستقبل، بأقوال من التراث العربي تبين أهمية «البعد التقني» في عملية الكتابة. فإسحاق بن حماد يقول: «لا حذق لغير مميز لصنوف البِراية». أما المقر العلائي بن فضل الله فيرى أن: «جودة البراية نصف الخط، ويستخلص من ذلك أن تعليم البراية أكبر من تعليم الخط». إذا كان القلم «وسيطا» للكتابة، فلا بد أولا من معرفة «برايته». فالبراية جانب تقني محض. فلا بد للكاتب من معرفة القلم الذي يكتب به، ولا يتاح له ذلك إلا بمعرفة برايته. وهذا الجانب التقني كما ارتبط بـ«الكتابة» على اللوح أو الورق، لا بد من معرفته في الكتابة الرقمية من خلال «حذق» البعد المعلومياتي: وظائف الحزمة المكتبية المختلفة وخاصة ما اتصل بتحرير النصوص، وكيفية توظيف الوسائط المتعددة (الصوت والصورة)، وإدراك البرامج الخاصة المصممة للتحرير وتوظيف الروابط الداخلية والخارجية. فعدم معرفة وظائف الحزمة المكتبية، وكيفية صناعة الروابط من خلالها، أو من غيرها من البرمجيات الخاصة، أو كيفية استخدام برنامج خاص بالكتابة الرقمية، لا يمكن أبدا أن يجعلنا قادرين، كتابا وقراء، على كتابة النص الرقمي وتلقيه.
• هلا حدثتنا عن نوع القراءة التي يعتمدها النص التفاعلي والمستندة في ذلك إلى خصوصية شاشة الحاسوب؟
ــ ما قلناه عن الكاتب يمكن تأكيده بالنسبة للمتلقي: التجاوب مع إمكانات الوسائط المتفاعلة والتلاؤم معها. وللأسف الشديد لا يزال تعليمنا من الابتدائي إلى العالي لا يولي لمسألة مواجهة الأمية الرقمية ما تستحق من العناية، ولكننا مع ذلك نتحدث عن الفجوة الرقمية؟ إن التربية الرقمية مدخل تفاعلنا الإيجابي مع العصر الرقمي. ولما كان الوعي الرقمي غير متوفر لا يمكن الانتقال إلى الإنجاز الرقمي على النحو الأمثل. لقد تغيرت عملية القراءة، وصارت أفقية بعد أن كانت عمودية. وبذلك فعملية القراءة بدورها يجب أن تتغير لتحقيق تفاعل إيجابي مع ما يقدمه النص الرقمي. وإني بصدد تأليف كتاب في هذا الاتجاه، يراعي جوانب «الكتابة» و«القراءة» و«البحث» باستثمار الوسائط المتفاعلة.
القمع الإلكتروني
• «من المتلقي إلى المبحر المتفاعل» عبارة وصفت بها دور المتلقي في الأدب التفاعلي؛ فما التغيرات التي طرأت على دور المتلقي في العلاقة مع النص المطبوع؟
ــ كل التنظيرات التي طرحت حول «التلقي» من خلال جمالية التلقي ونظرية الاستجابة، تؤكد المنحى الذي بدأ يتأكد الآن مع التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل. فالمتلقي لم يبق ذلك الشخص الذي يتلقى بـ«حياد» أو انفعال ما يقرأ. لقد كان الكتاب في مرحلة الطباعة، والإعلام في نطاق الوسائط الجماهيرية ( الإذاعة، التلفاز) أدوات للحصول على المعلومات في ضوء التصور الذي يحمله منتجها ومروجها. لكن مع ثورة عصر المعلومات، سواء من خلال الفضائيات، أو الإعلام الجديد، أو الوسائط المتفاعلة لم تبق للمعلومات أهمية في ذاتها لأنها صارت «مطروحة في الطريق»، ومتنوعة ومتعددة، عكس ما كانت عليه سابقا، عندما كانت أحادية الاتجاه. لذلك سيتغير دور التلقي لأنه سيصبح أمام ضرورة تحويل تلك «المعلومات» إلى «معرفة». إن المبحر المتفاعل، يسعى إلى المعرفة. أما المتلقي العادي فيبحث عن المعلومة.
• طرحت في إحدى دراساتك السؤال التالي غير أنك لم تجب عنه، لذا أعيد طرحه عليك، ما دور الكتابة الرقمية في انتهاج أسلوب جديد على مستوى التواصل والإبداع والتلقي؟
ــ إن الكتابين معا (من النص إلى النص المترابط ــ 2005، والنص المترابط ومستقبل الثقافة العربية ــ 2010) محاولة للجواب عن هذا السؤال. لقد انطلقت، بصفة مباشرة حينا، وضمنية أحيانا أخرى، من أن مرحلة الرِّقامة جديدة في تاريخ البشرية؛ وعلينا، نحن العرب، أن نجعلها نقطة تحول في فهمنا للنص وللكتابة وللثقافة وللتربية وللتعليم وللاقتصاد وللسياسة، أي أن تكون بداية لمسار جديد في الفكر والإبداع والممارسة، فنجدد مظاهر تفكيرنا في كل الظواهر التي تحيط بنا، وبواسطتها أيضا يمكننا تجديد علاقتنا بتراثنا، وألا نتعامل معها باعتبارها «تقنية» فقط. إن ظهور وسيط جديد يؤدي إلى بروز أشكال جديدة من النظر والعمل. وإن التغيير الذي يمس أشكال التواصل سيؤثر على أنماط التلقي. وعلى كل أطراف التواصل والإبداع والتلقي أن تتلاءم مع متطلبات هذه المرحلة الجديدة، وإلا فإننا سندخل إليها محملين بكل تركات وسلبيات المراحل السابقة والتي لم نتخلص منها في أوانها. فالشفاهة ظلت مكبلة لكتابتنا ومعوقة لها. والكتابة بمعناها الخطي والطباعي، وبالشكل الرديء الذي مارسناها به، سننقلها إلى المرحلة الرقمية. ومعنى ذلك أن هذه الكتابة الجديدة ستظل ناقصة، وستعني أننا لا نزال متخلفين عن الانتقال إلى مرحلة أعلى. ولعل تأخرنا في إنتاج نص رقمي بالمعنى التام للكلمة على المستويين الإبداعي والفكري والإعلامي خير دليل على ذلك. كما أن عاداتنا في التلقي والإنتاج يجب أن تتغير. فلا نبقى كمنتجين نتصور أننا نقول «فصل الخطاب» في كل شيء، وعلى الآخر أن يأخذ ما ندعيه على أنه «الحقيقة». علينا أن نؤمن بأن المتلقي له وجهة نظر ورؤية بصدد ما ننتج، وعلينا انتظار تفاعله معنا، كما أن علينا دفعه للتفاعل معنا ليعبر عن موقفه. وعلينا، في السياق ذاته، أن نتعلم قبول رأي الآخر: هذا هو المظهر الجوهري للتفاعل. لقد انتهى الزمن الخطي للتلقين والإفحام. كما أن على المتلقي أن يعمل على الارتقاء إلى امتلاك وعي نقدي (وهنا يبرز دور التربية الرقمية) يمكنه من متابعة مختلف المعلومات التي يتلقاها، وأن يتعامل معها بالسؤال والنقاش وإبداء الرأي، وأن يصبح فاعلا، بدون أن يظل محملا بتلك الرؤية التقليدية المبنية على التزمت للرأي، والدفاع عنه، بدون توفير مستلزمات المعرفة الدقيقة والحوار الهادئ والعميق حول مختلف القضايا التي يتفاعل معها. إن تفاعل المتلقي يمر عبر تكوين «معرفة» بالأشياء التي يتفاعل معها، والعمل على تطوير هذه المعرفة باستمرار، كما أن عدم رفض الآخر، مدخل لقبوله والتفاعل معه بشكل إيجابي. إن تحقيق «الملاءمة الوسائطية»، في مختلف صورها وأشكالها، في الإنتاج والتلقي والتواصل، هو التعبير الأجلى عن كل التحولات التي يمكننا الارتقاء إليها من خلال تمثلنا لطبيعة الوسائط المتفاعلة ووظيفتها بعمق ووعي مختلفين عن الذهنيات التي تكرست مع الوسائط ما قبل الرقمية. أما إذا انتقلنا إلى استثمار هذه الوسائط الجديدة بتلك الذهنيات العتيقة، سنعيد إنتاج الواقع والوعي ما قبل الرقميين، ولكن بصورة أفظع (ترويج الإشاعات، السب والقذف، نشر الأكاذيب، الحجب)، أي أننا سنجد أنفسنا مجددا أمام القمع الإلكتروني، ونقيضه الإرهاب الإلكتروني، حيث يأخذ «التفاعل» بينهما صور الإلغاء والإقصاء للآخر، بدل الحوار البناء والحوار النقدي، الذي يشيد لعلاقات جديدة ومتوازنة بين مختلف مكونات المجتمع.
• أشرت في مفتتح إحدى دراساتك إلى أن تناول مسائل الكتابة الرقمية يقتضي تقييم الواقع الراهن للكتابة العربية حتى يسهل الانتقال إلى مرحلة الكتابة الرقمية وفق الشروط التي تتطلبها، وأجدها إشارة جديرة بالالتفات للتساؤل عن أسئلة الكتابة العربية الآن؟
ــ الكتابة العربية تحولت مع ظهور المطبعة، ولم تبق محافظة على سماتها التي ارتبطت بالكتابة الخطية. هذا التحول عرفته كل الكتابات القديمة بانتقالها إلى الطباعة. لقد برزت مع الطباعة تقنيات جديدة في الكتابة أكتفي منها بالإشارة إلى لعبة البياض والسواد على الصفحة، وعلامات الوقف، والتنظيم النصي. ومعنى ذلك أن أي وسيط جديد يستدعي متطلبات جديدة تتجاوز الإكراهات التي كانت تقيد عملية الكتابة في مرحلة سابقة. عرفت الكتابة العربية بعض التحولات التي فرضتها ضرورات الطباعة ومستلزماتها. لكن بوجه عام لم يتم التقيد بها. فعلامات الوقف لا تزال تطرح مشاكل بالنسبة للعديد من الكتاب والباحثين. ورغم أن هناك مواد تدرس حول مهارات الكتابة، ومصنفات في هذا الاتجاه؛ لكن التطبيق يظل بعيدا عن الالتزام بتلك التقنيات المدرَّسة أو المؤلفة. كما أن التنظيم النصي يعرف مشاكل عديدة لدى العديد من الدارسين والباحثين، حيث لا نجد التمييز بين الفقرات بحسب تسلسل الأفكار. وبناء الجملة يعرف أحيانا خللا كبيرا، بحيث تصبح الفقرة كلها جملة واحدة. وعلى مستوى التنظيم العام نجد النص كتلة واحدة بحيث تغيب العناوين الفرعية أو الأرقام التسلسلية، كل ذلك يبين أن «الكاتب» يكتب كما «يتحدث». بمعنى آخر أن الالتزام بقواعد الكتابة كما تطورت مع الطباعة لا يزال بعيد التحقق عندنا.
النص المترابط
• وماذا عن قواعد الكتابة الرقمية واستيعابنا لها؟
ــ الكتابة الرقمية عرفت بدورها تطورا مع ظهور الوسائط المتفاعلة، ولا يمكننا ممارستها على النحو الأمثل بدون توظيف ما فرضته الطباعة إلى جانب ما تستدعيه الكتابة التي يتم التواصل معها من خلال الشاشة. ولعل أهم مقوماتها يكمن في الإيجاز الذي يضمن وصول كل ما يريده الكاتب بدون إخلال بأهم ما يريد توصيله وإبلاغه. ولا يمكن أن يتحقق الإيجاز في الكتابة بدون ممارسته في الشفاهة. ويكفي المرء أن يشارك في أي ندوة عربية حول أي موضوع ليجد نفسه أمام محاضرين عاجزين عن تلخيص أفكارهم في ربع ساعة، ويتذرعون دائما بالوقت الذي لا يسمح لهم بـ«قراءة» ما كتبوه رغم أنهم في مقام تواصلي يستدعي الشفاهة. إن عدم التلاؤم بين المقام التواصلي والوسيط من بين أكبر المشاكل التي تعترض الكاتب العربي مبدعا أو دارسا. وبدون تحقيق، ما أسميه «الملاءمة الوسائطية»، سيكون الانتقال إلى الكتابة الرقمية محملا بكل المشاكل التي لم يتم حلها مع الكتابة ما قبل الرقمية إجمالا.
• قبل الولوج إلى قضايا الأدب التفاعلي، يحسن أن توضح لنا جوانب العلاقة العضوية بين النص التفاعلي الأدبي والنص المترابط hypertext والشروط التقنية التي يؤسس بها الثاني لقواعد الأول؟
ــ سؤال دقيق، وهو يحيلنا إلى ما قلناه عن الكتابة الرقمية. إن التصور الرقمي يدفع إلى اعتبار النص، أيا كان جنسه أو نوعه، مجموعة من الشذرات التي نربط بينها بواسطة روابط محددة ومعينة. ومن هنا جاء نعت النص المتصل بالوسائط المتفاعلة بـ «النص المترابط»، عكس النص بمعناه التقليدي. هذا المعنى هو الذي أعطاه مبتكر هذا المفهوم، تيودور نيلسون (1965) حين كان يجد نفسه أمام ركام هائل من «الوثائق» المتنوعة؛ وكان يفكر في التعامل معها بكيفية مرنة وسهلة. فاهتدى إلى ضرورة اتخاذ سمة الربط بينها بواسطة «روابط»، تيسر عملية الانتقال بين تلك الوثائق من داخلها. هكذا اقترح مفهوم «Hypertext» للنص المبني على هذه الكيفية. أما علاقة هذا النص المترابط بالتفاعل فتكمن في تجاوز «خطية» النص التقليدي الذي كان يتفاعل معه المتلقي عن طريق قراءته إياه من البداية إلى النهاية، محاولا من خلال عملية القراءة هذه أن يبني المعنى من خلال إعادته بناء النص في ذهنه. أما مع النص المترابط فيأخذ التفاعل بعدا آخر. إن تجاوز الخطية في عملية القراءة، يتيح للمتلقي التنقل في النص بحرية أكثر، إذ كلما وجد «روابط» يمكنه أن ينشطها لينتقل في النص، بكيفية تتلاءم مع عملية القراءة التي يقوم بها، فيعود إلى رابط سابق، وقد يواصل عملية القراءة دون تنشيط كل الروابط. الحصيلة هي أن القارئ يخلق «نصه» الذي «يتفاعل» معه من خلال ما يقدمه له النص المترابط من إمكانيات. وكل نص مترابط يقرؤه المتلقي بكيفية مختلفة عن متلق آخر. بل هو نفسه يقرأ النص عينه مرات مختلفة بكيفيات مختلفة. هذا التحول يجعل صلة التفاعل أكثر تطورا بالنص المترابط عما كانت عليه في مراحل سابقة.
البلاغة الرقمية
• يبدو من حديثك أن «التفاعلية» تعد أبرز سمات الأدب التفاعلي، فماذا تعني؟ وما مستوياتها بالنسبة لمكونات النص التفاعلي؟
ــ تعني التفاعلية، وفق ما رأيناه في الجواب السابق، مشاركة المتلقي في بناء النص وفق اختياراته، وليس وفق ما تفرضه عليه أحادية النص وخطيته. وهذه المشاركة تجعل المتلقي «فاعلا» أي منتجا، وليس فقط منفعلا أو «مستهلكا» سلبيا. أي أن المتلقي صار يقوم بدور المنتج أيضا.
• أشرت إلى أن هناك أسسا للكتابة الرقمية، فما هي؟ وما أوجه اختلافها الجذري عن الكتابة المطبوعة؟
ــ يمكننا التمييز في الكتابة الرقمية، في رأيي، بين مستويين: الأول ذو بعد نصي، أي يتعلق بكيفية «كتابة» نص يخضع بدقة لقواعد الكتابة التقليدية، بنية الجمل، علامات الوقف، وتضاف إلى ذلك حرصه على تقديم النص وفق بلاغة جديدة (هل نحن أمام بلاغة رقمية؟) تعتمد الإيجاز، ركيزة أساسية، وتعمل على تجاوز كل المشوشات التي تحول دون التواصل مع المتلقي. أما البعد الثاني، فيتصل بالتنظيم النصي، أي كل ما يتصل بتصميم النص باعتباره «عقدا» و»روابط». فتكون العقد مبنية بشكل «شذري» مدروس، وتكون «الروابط» دقيقة، لا كثيرة فتشوش عملية الانتقال، ولا قليلة، فتحول التلقي إلى القراءة الخطية.
العقد والروابط
• ذكرت في معرض إجابتك عن السؤال السابق أن النص الرقمي يتشكل من «عقد» و«روابط»، فما تعريفهما؟ وما الفارق التكويني بين بنية النص التفاعلي والنص ما قبل الرقمي الذي ذكرت بمشروعك النقدي أنه يتكون من بنيات وعلاقات؟
ــ تتعلق المسألة هنا بالاصطلاح. فكل علم، أو نظرية، يجترح له مفاهيمه ومصطلحاته الخاصة به والتي تتلاءم مع ترسانته النظرية والمنهجية الجديدة. فإذا كانت العلوم الأدبية، في المرحلة البنيوية، انتهت إلى اعتبار النص يتشكل من بنيات تربط بينها علاقات، نجد المشتغلين بنظرية النص المترابط، لا يتعاملون فقط مع النص الأدبي، بصورة حصرية، ولكن مع «الوثائق» أو «البيانات» بغض النظر عن جنسها أو نوعها. فكل ما يتم ترقيمه والتعامل معه من خلال الوسائط المتفاعلة «بيانات». هذه البيانات ستعتبر بمثابة «عقد» (nodes). والعقدة كتلة نصية يتم الربط بينها وبين كتلة نصية أخرى، سواء أكانت تلك الكتلة من جنسها أو من غيره، بواسطة «روابط»(links)، ولأضرب مثالا على ذلك، سنعتبر الشاهد في النص، مثلا، بمثابة «عقدة»، ونتعامل مع «رقم» الهامش الموضوع في نهايته على أنه «رابط»، وعندما نتأمل ما يحيل إليه رقم الهامش نجده ينقلنا إلى «عقدة» أخرى، وهكذا دواليك.
• هل يمكن الانطلاق من هذه التوطئة أو التساوق معها بالأحرى، أقصد تعريفك لـ«العقد» و«الروابط»، للتساؤل عن المراحل التي يمر بها تشكيل النص التفاعلي؟
ــ سؤال في غاية الأهمية، وهو مدار علاقة الوسائط المتفاعلة بالإبداع التفاعلي بصورة عامة. ويتطلب الجواب عنه مؤلفات وليس جوابا في صحيفة. ولعل مدخل ذلك هو التفريق بين النص والنص المترابط، والمرقم والرقمي: أي أننا مطالبون بالوعي الرقمي إجمالا. ولا يمكن أن يتحقق هذا الوعي بدون إدراك طبيعة الوسائط المتفاعلة وطبيعتها ووظائفها. إننا لا نزال نستعمل الحاسوب، فقط بديلا عن الآلة الكاتبة؟ كما أننا نستعمل الهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية وكأنها فقط تجميع لأدوات تكنولوجية متعددة تسمح لنا بالاتصال مع الآخر، والتواصل معه (الهاتف)، أو لسماع الموسيقى (آلة التسجيل)، أو لمشاهدة الأفلام وتصويرها (الفيديو)، في حين أننا لا نستعمل هذه الوسائط الجديدة مستغلين كل الإمكانيات التي توفرها لنا. ويدل هذا على غياب الوعي الرقمي لدينا، ومعناه عدم الارتقاء إلى ملاءمة حاجياتنا مع وظائف الوسيط وإمكاناته الهائلة. فالشاعر يكتب قصيدته كما كان يفعل قبل تعامله مع هذا الوسيط. وعندما ينتهي منها، بدل أن يبعث بها إلى الجريدة أو المجلة، ينشرها أو يعممها على صفحات الفايسبوك؟ ويدعي أنه «شاعر رقمي»، وأنه لا يتعامل مع الورق، وأنه تجاوز المرحلة الورقية؟ إنه بدون مراعاة شروط الكتابة الرقمية لا يمكننا أن ننتج نصا رقميا، وبذلك لا يمكننا الارتقاء إلى الإبداع التفاعلي. إننا نكتب نصوصنا بوعي لا رقمي، ونرقمها مدعين أننا رقميون.
الحذق المعلومياتي
• انطلاقا من إشارتك إلى أهمية الوسائط المتفاعلة في إجابة السؤال السابق، ما أهمية البعد التقني المعلومياتي في إنتاج النص التفاعلي وتلقيه؟ وما متطلبات اكتساب المعرفة المعلومياتية الأساسية لإنتاج وتلقي النص التفاعلي، ولا سيما أنك عزوت التأخر في إنتاج النص التفاعلي عالميا إلى هذا الحاجز المعلومياتي؟
ــ في كتاب «من النص إلى النص المترابط»، صدرت الباب الثالث والذي يحمل عنوان: الإبداع العربي وآفاق المستقبل، بأقوال من التراث العربي تبين أهمية «البعد التقني» في عملية الكتابة. فإسحاق بن حماد يقول: «لا حذق لغير مميز لصنوف البِراية». أما المقر العلائي بن فضل الله فيرى أن: «جودة البراية نصف الخط، ويستخلص من ذلك أن تعليم البراية أكبر من تعليم الخط». إذا كان القلم «وسيطا» للكتابة، فلا بد أولا من معرفة «برايته». فالبراية جانب تقني محض. فلا بد للكاتب من معرفة القلم الذي يكتب به، ولا يتاح له ذلك إلا بمعرفة برايته. وهذا الجانب التقني كما ارتبط بـ«الكتابة» على اللوح أو الورق، لا بد من معرفته في الكتابة الرقمية من خلال «حذق» البعد المعلومياتي: وظائف الحزمة المكتبية المختلفة وخاصة ما اتصل بتحرير النصوص، وكيفية توظيف الوسائط المتعددة (الصوت والصورة)، وإدراك البرامج الخاصة المصممة للتحرير وتوظيف الروابط الداخلية والخارجية. فعدم معرفة وظائف الحزمة المكتبية، وكيفية صناعة الروابط من خلالها، أو من غيرها من البرمجيات الخاصة، أو كيفية استخدام برنامج خاص بالكتابة الرقمية، لا يمكن أبدا أن يجعلنا قادرين، كتابا وقراء، على كتابة النص الرقمي وتلقيه.
• هلا حدثتنا عن نوع القراءة التي يعتمدها النص التفاعلي والمستندة في ذلك إلى خصوصية شاشة الحاسوب؟
ــ ما قلناه عن الكاتب يمكن تأكيده بالنسبة للمتلقي: التجاوب مع إمكانات الوسائط المتفاعلة والتلاؤم معها. وللأسف الشديد لا يزال تعليمنا من الابتدائي إلى العالي لا يولي لمسألة مواجهة الأمية الرقمية ما تستحق من العناية، ولكننا مع ذلك نتحدث عن الفجوة الرقمية؟ إن التربية الرقمية مدخل تفاعلنا الإيجابي مع العصر الرقمي. ولما كان الوعي الرقمي غير متوفر لا يمكن الانتقال إلى الإنجاز الرقمي على النحو الأمثل. لقد تغيرت عملية القراءة، وصارت أفقية بعد أن كانت عمودية. وبذلك فعملية القراءة بدورها يجب أن تتغير لتحقيق تفاعل إيجابي مع ما يقدمه النص الرقمي. وإني بصدد تأليف كتاب في هذا الاتجاه، يراعي جوانب «الكتابة» و«القراءة» و«البحث» باستثمار الوسائط المتفاعلة.
القمع الإلكتروني
• «من المتلقي إلى المبحر المتفاعل» عبارة وصفت بها دور المتلقي في الأدب التفاعلي؛ فما التغيرات التي طرأت على دور المتلقي في العلاقة مع النص المطبوع؟
ــ كل التنظيرات التي طرحت حول «التلقي» من خلال جمالية التلقي ونظرية الاستجابة، تؤكد المنحى الذي بدأ يتأكد الآن مع التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل. فالمتلقي لم يبق ذلك الشخص الذي يتلقى بـ«حياد» أو انفعال ما يقرأ. لقد كان الكتاب في مرحلة الطباعة، والإعلام في نطاق الوسائط الجماهيرية ( الإذاعة، التلفاز) أدوات للحصول على المعلومات في ضوء التصور الذي يحمله منتجها ومروجها. لكن مع ثورة عصر المعلومات، سواء من خلال الفضائيات، أو الإعلام الجديد، أو الوسائط المتفاعلة لم تبق للمعلومات أهمية في ذاتها لأنها صارت «مطروحة في الطريق»، ومتنوعة ومتعددة، عكس ما كانت عليه سابقا، عندما كانت أحادية الاتجاه. لذلك سيتغير دور التلقي لأنه سيصبح أمام ضرورة تحويل تلك «المعلومات» إلى «معرفة». إن المبحر المتفاعل، يسعى إلى المعرفة. أما المتلقي العادي فيبحث عن المعلومة.
• طرحت في إحدى دراساتك السؤال التالي غير أنك لم تجب عنه، لذا أعيد طرحه عليك، ما دور الكتابة الرقمية في انتهاج أسلوب جديد على مستوى التواصل والإبداع والتلقي؟
ــ إن الكتابين معا (من النص إلى النص المترابط ــ 2005، والنص المترابط ومستقبل الثقافة العربية ــ 2010) محاولة للجواب عن هذا السؤال. لقد انطلقت، بصفة مباشرة حينا، وضمنية أحيانا أخرى، من أن مرحلة الرِّقامة جديدة في تاريخ البشرية؛ وعلينا، نحن العرب، أن نجعلها نقطة تحول في فهمنا للنص وللكتابة وللثقافة وللتربية وللتعليم وللاقتصاد وللسياسة، أي أن تكون بداية لمسار جديد في الفكر والإبداع والممارسة، فنجدد مظاهر تفكيرنا في كل الظواهر التي تحيط بنا، وبواسطتها أيضا يمكننا تجديد علاقتنا بتراثنا، وألا نتعامل معها باعتبارها «تقنية» فقط. إن ظهور وسيط جديد يؤدي إلى بروز أشكال جديدة من النظر والعمل. وإن التغيير الذي يمس أشكال التواصل سيؤثر على أنماط التلقي. وعلى كل أطراف التواصل والإبداع والتلقي أن تتلاءم مع متطلبات هذه المرحلة الجديدة، وإلا فإننا سندخل إليها محملين بكل تركات وسلبيات المراحل السابقة والتي لم نتخلص منها في أوانها. فالشفاهة ظلت مكبلة لكتابتنا ومعوقة لها. والكتابة بمعناها الخطي والطباعي، وبالشكل الرديء الذي مارسناها به، سننقلها إلى المرحلة الرقمية. ومعنى ذلك أن هذه الكتابة الجديدة ستظل ناقصة، وستعني أننا لا نزال متخلفين عن الانتقال إلى مرحلة أعلى. ولعل تأخرنا في إنتاج نص رقمي بالمعنى التام للكلمة على المستويين الإبداعي والفكري والإعلامي خير دليل على ذلك. كما أن عاداتنا في التلقي والإنتاج يجب أن تتغير. فلا نبقى كمنتجين نتصور أننا نقول «فصل الخطاب» في كل شيء، وعلى الآخر أن يأخذ ما ندعيه على أنه «الحقيقة». علينا أن نؤمن بأن المتلقي له وجهة نظر ورؤية بصدد ما ننتج، وعلينا انتظار تفاعله معنا، كما أن علينا دفعه للتفاعل معنا ليعبر عن موقفه. وعلينا، في السياق ذاته، أن نتعلم قبول رأي الآخر: هذا هو المظهر الجوهري للتفاعل. لقد انتهى الزمن الخطي للتلقين والإفحام. كما أن على المتلقي أن يعمل على الارتقاء إلى امتلاك وعي نقدي (وهنا يبرز دور التربية الرقمية) يمكنه من متابعة مختلف المعلومات التي يتلقاها، وأن يتعامل معها بالسؤال والنقاش وإبداء الرأي، وأن يصبح فاعلا، بدون أن يظل محملا بتلك الرؤية التقليدية المبنية على التزمت للرأي، والدفاع عنه، بدون توفير مستلزمات المعرفة الدقيقة والحوار الهادئ والعميق حول مختلف القضايا التي يتفاعل معها. إن تفاعل المتلقي يمر عبر تكوين «معرفة» بالأشياء التي يتفاعل معها، والعمل على تطوير هذه المعرفة باستمرار، كما أن عدم رفض الآخر، مدخل لقبوله والتفاعل معه بشكل إيجابي. إن تحقيق «الملاءمة الوسائطية»، في مختلف صورها وأشكالها، في الإنتاج والتلقي والتواصل، هو التعبير الأجلى عن كل التحولات التي يمكننا الارتقاء إليها من خلال تمثلنا لطبيعة الوسائط المتفاعلة ووظيفتها بعمق ووعي مختلفين عن الذهنيات التي تكرست مع الوسائط ما قبل الرقمية. أما إذا انتقلنا إلى استثمار هذه الوسائط الجديدة بتلك الذهنيات العتيقة، سنعيد إنتاج الواقع والوعي ما قبل الرقميين، ولكن بصورة أفظع (ترويج الإشاعات، السب والقذف، نشر الأكاذيب، الحجب)، أي أننا سنجد أنفسنا مجددا أمام القمع الإلكتروني، ونقيضه الإرهاب الإلكتروني، حيث يأخذ «التفاعل» بينهما صور الإلغاء والإقصاء للآخر، بدل الحوار البناء والحوار النقدي، الذي يشيد لعلاقات جديدة ومتوازنة بين مختلف مكونات المجتمع.