أغانٍ لأعشاش مهجورة

أغانٍ لأعشاش مهجورة

تأليف: عبده خال

تعطلت حياة الحي بصورة مفاجئة ولم يعد من قوت يتبادله الأهالي بهمة ونهم إلا النصائح.
مضى أسبوع كامل على موقعة حرب جن بيت عاشور، ولا تزال الحارة تعيش تفاصيل تلك الليلة المرعبة، كان بالإمكان أن تمضي تلك الحادثة مثل عشرات الحكايات المثيرة التي عبرت الحي مبقية أثر ذكراها للتملح بها واجترارها في ليالي السأم، إلا أن ما حدث قلب الحي رأسا على عقب.
ــ لن ينام الجن على إهانتنا لهم.
جملة توزعها الأهالي بعد أن خرجت من فم عمر الياردي واختبروا مصداقيتها بما رأوه وسمعوه، فشاعت أخبار متعددة عن مهاجمة الجن لمن تجرأ عليها، وقيل إن بعض رجالات الحي تلقى عقوبة مباشرة كإبراهيم عاشور الذي تحول وجهه إلى شوارع ضيقة، وأقسم محمود نوار على رؤية رجال على هيئة كلاب تتراكض بين أزقة الحي نابحة تتدلى ألسنتها كأرغفة خبز نيئة.


تنامى الخوف بين الساكنين فلم يجدوا وسيلة تخفف جزعهم، فتفرغوا لتبادل النصائح، وكانت أهم نصيحة عمل بها الجميع إغداق مرمى القمامة بالروث والعظام لإشباع جوع من تبقى من الجن، وهي النصيحة التي أوصى بها رباح الكحلي إمام المسجد في خطبة قصيرة أسماها (تكاتف الفقراء والأولياء)، وهو العنوان الذي اعتبره غريب موسى عنوانا ممجوجا مهلهل المعنى شبهه بمن يضع ثوبه على رأسه ويسير عاريا، تشبيهه هذا أضحك المتغامزين على رباح وعدم أهليته لإمامة الناس، إلا أن هياج الحي مما يجدون من هلع لم يمكنهم من إعلان فقر وسقم تفكير رباح.
خرج الجميع من المسجد مضمرين نية إشباع جن الأرض، فتم انتداب الصبية لجمع الروث من مطارح الأبقار وزرائب الأغنام ومرابط الحمير، وتبرع الجزارون بتوفير كميات من العظام الطازجة وغالى بعضهم بأن نثر روثا وألقى عظاما بجوار الجثث المتفسخة لكي يطعم الجن الخارج لزيارة موتاه الذين قضوا نحبهم في تلك الليلة الدامية... وتفرغت النساء للاغتسال في كل لحظة خشية من مداهمة الدورة الشهرية على حين غرة، فتفسح المجال لاختراق أجسادهن من جني ضل الطريق.
دخلت الحارة في حالة هوس عشوائي، إذ أن الكل يوصي والكل ينفذ، لكنهم لم ينسوا إمطار العمدة والياردي بأقذع الأوصاف مع تحميلها مسؤولية ما هم فيه من خوف.
ومع حلول الظلام تتسارع الخطى للاختباء داخل المنازل، إذ ثمة نصيحة أخرى التزموا بها بأن لا يشاركوا الجن وقت تريضهم وخروجهم من خرائبهم للتنزه والاستئناس، فيخلون الشوارع ويدرجون لبيوتهم لترتفع أصوات المقرئين متصاعدة من أحواش ونوافذ تلك البيوت المنكسة على أصحابها لا يخالطها إلا أنفاس جزعة انشغلت بالتعوذ من الجن وإيذائهم، ومن لم يجد مقرئا ينير بيته ويصد غمام هواجسه السوداء حفز أحد أفراد أسرته لقراءة القرآن أو حمل أسرته وانتقل إلى بيت به قارئ.. ويمضى الليل متوترا محصيا نبضات قلوب غير مطمئنة.
في الصباح يتحرزون من طرق الشوارع المحيطة ببيت عاشور، إذ عمت روائح نتن الحيوانات المقتولة وتوافدت أسراب الذباب من كل جهة تعاونها حشرات ودويبات عجزت عن التهام تلك الجيف المنتشرة، فقد أدى تفسخ الجثث إلى اتساع رقعة انتشار الحشرات، وغدا المكان مثقلا بروائح لا تطاق.. ومع رؤية تشريطات وجه إبراهيم عاشور أيقنوا أن الجن عاثت بوجهه فسادا انتقاما لنفسها، وقد أشيع أنها لم تقتله لكي يكون وجهه رسالة صريحة لبقية أهالي الحي بأن لا أحد سيحتفظ بملامحه في الأيام القادمة.. وفي جهات أخرى ارتفعت نسبة الخوف من المصابين بالسعار، إذ ظهرت عليهم أعراض متقدمة تشي بقرب نهايتهم..
وشكك البعض بأن المصابين غدوا مسكنا للجن، وقد حذر إياس عيسى من مغبة ترك المكلوبين أحياء:
ــ لو تمكن منهم المرض فسوف تجدون حيكم ينبح.
ولثقتهم في معرفة إياس ببواطن الداء تواصوا على عدم الاقتراب من المسعورين والسعي لاقتيادهم وشد وثاقهم في حظيرة أبقار أقيمت خارج الحي، وإن لم يستطيعوا التصريح بالجزء الخير من وصيته.. ومع ظهور حالة سعار رابعة أيقن جيران المصاب من تفشي المرض وطالبوا بإخراج كل المرضى إلى خارج الحي، فصاحت زوجة حامد المنفوش:
ــ هل تريدون مني رمي زوجي في مرمى القمامة؟!
فتلقفتها زينب منور بلسان حاد:
ــ وما يضيرك لو رميناه، فهو آلة معطوبة كما تقولين، والأفضل أن نرميه بالقمامة بدل أن نتحول جميعا إلى كلاب ينتهي بها الحال إلى نهش أبنائها.
وفي بيت سعود غالب تجمع الجيران لمشاهدة الدود الخارج من جسده، بينما استقر مستندا على الحائط لاهثا بلسان ممدودة لا تقدر على تخفيف جريان لعابه السائل، فتجرأت زوجته بمعاونة ليلى يحيي على اقتياده وتوثيق قدميه بسارية الصندقة الداخلية، وأسرعتا بالخروج.
وأقسمت ليلى بأنها رأت جنا يخرجون من رأس سعود على هيئة بخار حار زخم الرائحة، فهيجت أنفس النساء للبكاء وحثت الرجال على اتخاذ خطوة متقدمة ضد المصابين بالسعار.
** **
انتصف الليل أو قارب من ذلك، كان وقتا عصيبا لأن يتشتت أهالي الحارة بين الأزقة فزعين مستفسرين عن جلبة عمت بضجيجها أركان الحي، وتعالى نباح جماعي من اتجاهات مختلفة، وتعالت الصيحات محذرة من أن الجن خرجوا للانتقام ومن سمع ذلك التحذير ارتاع ولم يجد منفذا لاستقرار أهل بيته سوى الخروج بهم إلى الشارع ومواجهة ما سوف يحدث وسط الناس، وهي الوصية التي التزم بها الأهالي اتباعا لمثلهم الأثير:
ــ الناس بالناس والكل بالله.
فاحتشدوا بجوار هضبة الصهريج يتقاسمون حيرة ما الذي يجب فعله، حيرة كانت تبحث عمن يقودها، فاستغل علي مبارك ذلك التخبط متزعما مسيرة قادها باتجاه بيت العمدة، فخبت من خلفه أعداد كبيرة صامتة كي لا تثير أصواتها حنق الجن، فتهب للعصف بهم، كان سيرهم في تلك الظلمة الغامقة يعتمد على تلمس طريقهم بمتابعة بقع أضواء شحيحة نزت من كشافات توزعت بأيدي المتقدمين في مسيرتهم، وعندما سالت مجاميعهم لبرحة تفضي لبيت العمدة توقفوا غير بعيد منتظرين ما الذي يمكن حدوثه.
انهال طرق عنيف على بوابة بيت العمدة، فجفل من مرقده على صياح خادمته:
ــ سيدي هناك خلق كثير يقفون على الباب.
تمايلت شحوم جسده كسفينة ارتبك توازنها على المرسى، وفرك عينيه طاردا نعاسا داهمه قبل لحظات من هذا الإرباك، وحمل جسده كاملا على النهوض مثبتا (فوطته) على خاصرته هاما بالخروج، فاستدركت عليه زوجته:
ــ أتريد التقليل من هيبتك بهذه الهيئة.
ــ لم يبق لي الجن أي هيبة
ونهضت على عجل تجهز له ملبسا لائقا وهي تجادله مكذبة كل الأقاويل المنثورة بين البيوت وعلى ألسنة النساء، فغمغم العمدة:
ــ لعنة الله على عمر الياردي، فهو المتسبب في كل هذه الحومة..
وتراجع للخلف ممكنا زوجته من إحكام إغلاق أزارير سديريته تغالبه كحة ثقيلة:
ــ وكل اللعنة لعقول تصدق كل ما يقال لها...
طافت جملته الأخيرة في مخيلته وأيقن بأنه يلعن نفسه مع من لعنهم، متذكرا أنه أسلم عقله لتخاريف عمر الياردي من غير التحرز لما يمكن أن تثيره دعوته من بلبلة عظيمة.
ــ الآن يمكنك الخروج.
تلقى أمر الخروج من زوجته من غير أن يستطيع الدعاء لها كعادته بسبب بلغم ثقيل تحشرج في أسفل بلعومه منعه من شكرها، وكذلك من مواصلة شتم القادمين إليه في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل، وتضاعف سخطه حينما سمع تتابع الطرق العنيف على بوابة منزله، وعزم على لي يد الطارق وإبقائها معلقة فوق صدره.
لم يكن متوقعا كل تلك الأعداد التي تداخل لغطها وغضبها واستغاثتها، فصاح متعجرفا:
ــ ما الذي أخرجكم في هذا الليل؟
فصاح علي مبارك:
ــ بفضل حكمتك يا عمدة تحولنا إلى كلاب نابحة.
قال جملته مجردة من التبجيل برق منها خيط الحقد جليا، وأحس العمدة أن عليا يغرف من صدر فاض ببغض دفين، بغض لو أفسح له المجال فسيخرج كلمات تذهب بهيبته أمام كل هذه الجموع المنصتة لما يقول، فقاطعه عجلا ومحاولا استدراج عبدالله البركاتي للحديث:
ــ ما الذي حدث يا شريف..
تباطؤ البركاتي في الرد مكن علي مبارك من مواصلة حديثه مبطنا حديثه باستهتار واضح:
ــ الذي حدث أن مجموعة كبيرة غدت تنبح كالكلاب فإما أن نقتلها وإما أن نستعد لدورنا في اللهاث... وستكون معنا بلا شك.
اهتز العمدة في وقفته وتخلى عن هدوئه صائحا:
ــ تأدب يا علي قبل أن أجعلك عبرة.
كاد الوضع ينزلق بينهما إلى شجار ثنائي لولا ارتفاع نباح جماعي جاء من جهات مختلفة، فارتبك العمدة وتحفز الرجال استعدادا لمواجهة مجموعة النابحين القاصدة تجمعهم.

** **
هال الجميع رؤية نفر من رجال الحارة يعوون بنباح سحيق القرار، حفاة الأقدام جرد الأجساد تظهر ملامحهم تحت الأضواء المصوبة عليهم شعثا غبرا زائغي الأبصار تترنح خطواتهم للوصول إلى بيت العمدة..
ــ من هؤلاء؟
سؤال أطلقه العمدة من غير أن يستبين ملامح القادمين، وقد اختلج فؤاده لنذور شؤم قادم، فأشار لأحد معاونيه بالتوسط في وقفته بينه وبين الأهالي، مبقيا عينيه تتفرس الخطوات المبعثرة للقادمين مجاهدا إيقاف رعشة مفاجئة انتابت يديه، حامدا لعيد محسن الذي انقلب موجها حديثه للمتجمهرين وساترا تلك الرعشة الظاهرة:
ــ العمدة يسأل من هؤلاء؟ ويحق له أن يسأل، يسأل وينام قرير العين ونحن نحصي مرضانا... وانبرى يعدد أسماء من أصيب بداء الكلب ومع ذكر اسم آخرهم، واجه العمدة بلهجة صارمة حادة:
ــ كل هؤلاء مصابون بداء الكلب... وهناك من تم تقييده داخل بيته.
خار العمدة للحظات باذلا أقصى ما يستطيع لتغيب رعشة يديه المخزية، وتراجع عن الكلمات النارية التي نوى إطلاقها، فضغط على أعصابه مستبدلا ما أعده من كلمات غاضبة بكلمات هادئة رزينة، مضفيا لنبرة صوته مسحة أسى على المرضى، لكنه سرعان ما تحفز مرتاعا حين حمله علي مبارك مسؤولية إصابتهم، وكظم غيظه ولان كغصن ريحان:
ــ ما أنا إلا منكم وقد وافقت على مقترحكم بمهاجمة جن بيت عاشور، ولم أكن أعلم بالنتائج..
وقطع جملته مع اقتراب المكلوبين حائرا مستفسرا:
ــ وما العمل فيما نحن فيه؟
يبدو أن هذا السؤال كان ينتظره علي مبارك بفارغ الصبر، فأجج مخاوف العمدة:
ــ كيف لو علم المسؤولون بهذه الواقعة والمتسبب فيها؟
زاد الهرج والمرج وتوافد أصحاب البيوت المجاورة لبيت العمدة لاستيضاح ما ألم بالجهة الشرقية من حيهم، ومع وصول الخبر إلى النساء تقافزن من الرواشين صائحات مولولات، ولم يكن بإمكان أحد من الحضور السيطرة على تلك المجاميع وتهدئتها، وظل العمدة يلوذ بالأعيان طلبا المشورة رافضا إيصال الخبر إلى مأمور المركز، فكلما لاح هذا المقترح أوجد فيه عيبا يحول دون تنفيذه وتسامح مع الكلمات النابية التي كانت تخرج من أفواه المجتمعين من غير الحرص على معرفة مطلقيها، وبالكاد كان يجمع الكلمات لتجميع فكرة يرضي بها الغاضبين، إذ كان منشغلا بتحذير أطلقه قاسم الجداوي:
ــ ماذا نفعل لو تقدم المكلوبون لنهش أجسادنا؟
عصفت الحيرة برأس العمدة متمنيا أن تميد الأرض بهذه الحثالة التي استقرت بصحن داره نادما على عدم مقدرته في تقليب أجسادهم تحت سياط خيزرانته المشهورة، شعر بالرضى الداخلي حيال رأي أطلقه معاونه:
ــ نصطف في مواجهتهم ونوقفهم بالعصي وإن لزم الأمر نقتلهم..
هاج المجتمعون وتعالى صفيرهم وطالت شتائمهم أبعد من المأمور الذي أوكل مهمة الحي لعمدة لا يعرف كيف يدبر ليلة هانئة لدجاجة في خن:
ــ نقتل من؟ أهلنا وأصدقاءنا..
في ذلك التموج الحركي واللفظي لمجاميع الحي كان علي مبارك يؤجج الموقف ويدفع المجتمعين للتصعيد ومنافحة العمدة ورجاله بالزحف إلى بيت المأمور، وإن كان في قرارة نفسه لا يريد الابتعاد بفكرته عن حيز إرباك العمدة وخلخلة ضلوعه بإعلان نية الوصول إلى المأمور مع علمه الأكيد أن ليس بمقدورهم الوصول إلى الطريق المؤدي إلى هناك.
ألقى العمدة نظرة جزعة لتقدم المكلوبين مخفيا يديه المرتعشتين خلف ظهره وظل يردد:
ــ ما العمل.. ما العمل؟
كان استفساره ولجلجته تبحثان عن منفذ يعتصم به في مواجهة هذه العواصف المتتابعة، وقد وجد في صوت إياس عيسى ملاذا ونجاة:
ــ لدى معرفة بعلاج داء الكلب...
فأمسك به العمدة وهزه من كتفيه (لإخفاء ارتعاشه يديه) متوسلا:
ــ قل.. قل يا إياس..
ــ الحل أن يشرب المصابون من دم علي مبارك
كان العمدة بين خيارين إما إظهار الاستنكار أو الانشراح، وإن كانت أعماقه تتراقص بفرح مفاجئ، إلا أنه غلب إظهار الاستنكار وهو يرتج مرددا قول إياس ومستدركا بشهادة على خبرة إياس في معرفة أجناس الأدوية ومقدرته العلاجية لكثير من الأمراض، ثم طابت نفسه لأن يفتح مخزون حقده، فصاح بالمتجمهرين:
ــ مادام في دم علي شفاء لمصابينا فلنسفك دم علي إذاً.
ومع اقتراب المكلوبين هاج المجتمعون، فتقافز أعوان العمدة شاهرين عصيهم في مواجهتهم للحيلولة بينهم وبين التقدم.
** **
تمسك العمدة بمقترح إياس عيسى الذي خاطب المجتمعين بحقيقة أن هناك دما يمكن له شفاء المصابين بداء الكلب، وأمن البركاتي على المعلومات التي ذكرها إياس، ساردا قصصا غريبة عجيبة حدثت في شمال البلاد ولم يخلص مرضاهم من الموت المحتوم إلا قطرات دم مخلوطة بماء أو قهوة، وبحركة ممسرحة تقدم إياس صائحا بالحضور:
ــ ربما يقول قائل منكم ولماذا دم علي فأقول لكم إنه من سلالة نقية اختص جدهم الأول بهذه الكرامة وظلت سارية في بقية ذريته..
ارتج المجتمعون وتدافعوا للوصول إلى الصفوف المتقدمة رغبة في رؤية التجربة التي سيقوم بها إياس على أحد المرضى ممن قبض عليه أعوان العمدة، فقد امتدت أيديهم لأحد المكلوبين وسحبوه ليكون ماثلا بين يدي إياس وتحرزا من أذاه تم توثيق ذراعيه وشد شعره للخلف، فتمنع علي مبارك مظهرا رفضا عصيا أن يفصد، فتعالت الحناجر متوسلة راجية منه منح مرضاهم شيئا من دمه، فقبل قبولا مشروطا بأن يتوسل إليه العمدة مع إعلان الندم على سفالته القديمة الطويلة معه، رثى العمدة لحاله وهو يبحث عن كلمات ترضى عليا لكي يوافق على الفصد، وكلما قال جملة طالبه ــ علي ــ بتجويد طلبه، تمنى لو كان بمقدوره جز رقبته لفعل، وتنامت هذه الرغبة بإضمار سفك دم هذا الحقير الذي أذله، وبيت نية جلب كل سكان الحارة ودفعهم لأن يشربوا من دم علي وقاية من داء الكلب.
لم يوافق علي مبارك إلا بعد إذلال مريع تكبد فيه العمدة إظهار كل أنواع الخنوع والذلة، بينما بقيت عين التشفي تتشهى مزيدا من الانكسار.
نشط تدافع الحضور حتى ضاق بهم المكان مكونين بتجمعهم نصف قوس، ومسلطين أضواء كشافاتهم باتجاه مشهد لن يروه في قابل الأيام، استل إياس (موس) من حقيبته الطبية، راجيا من علي مد ذراعه الأيسر ومرر شفرة الموس بسرعة خاطفة متلقفا جريان الدم في كأس صغير خلطه بماء، وتقدم صوب المكلوب موصيا أعوان العمدة بالبقاء على شد شعره للخلف حتى إذا سكب محتوى الكأس في جوف ذلك الفم المفتوح تراجع للخلف مترقبا أثر محلوله على المريض، لحظات حبست فيها الأنفاس ورفرف صمت وجل وتبادلت العيون الرمش الخاطف وغمس بعض الحضور وجوههم في أكفهم متذرعين بدعاء خافت لم ينهوه إلا مع ارتفاع صوت المريض مستنكرا:
ــ ماذا تفعلون بي...
طالب إياس بحل الوثاق ومسح وجه المريض بمنشفة داكنة اللون معلنا شفاءه.
وكطلقة عيار ناري مفاجئة انطلقت الحناجر بأزيز مدو صم الآذان تصاعد معها نحيب أهالي المرضى، وتبعتها زغاريد ريانة خرجت من ثقوب الرواشين المجاورة.
ولم يكن من أحد منكسرا في هذه اللحظة إلا العمدة الذي ظل يغالب ارتعاش يديه ويقضم شفتيه هازئا من كل الذي يحدث، ومقسما أن لا يغمض له جفن حتى يذل علي مبارك إذلالا لم يذل به إنسان قط.