حكاية 6 سنوات من «الثعلب» إلى «الصامت»
عكاظ تروي قصة اغتيال الحريري من الجريمة إلى القرار الاتهامي
الأحد / 02 / شعبان / 1432 هـ الاحد 03 يوليو 2011 20:18
زياد عيتاني، بارعة فارس ــ بيروت
ثلاثة رؤساء للجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري تعاقبوا خلال خمس سنوات وأربعة أشهر من أجل إصدار قرار اتهامي تقام بناء عليه المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. من الألماني ديتليف ميليس إلى البلجيكي سيرج براميرتز وانتهاء بالكندي دانيال بلمار، ثلاث مدارس عالمية بفن الجريمة والتحقيقات الجنائية تعاقبت على البحث والتحري في جريمة واحدة، وعلى هامشها 14 جريمة أخرى، ما كانت لتحصل وفق كثير من المراقبين لولا الجريمة الأولى التي أودت بحياة رفيق الحريري ورفاقه في 14 فبراير 2005.
من (الثعلب) ميليس إلى (الصامت) بلمار وما بينهما المتخصص بالقضايا العابرة للحدود براميرتز، بدأت حكاية القرار الاتهامي الذي لطالما كان شاغل الناس في لبنان وخارجه، فخلال كل السنوات الفائتة مواعيد كثيرة ضربت لصدوره وتسريبات أكثر قيلت عن مضمونه وتشكيك كبير قاده أمين عام حزب الله حسن نصرالله حول حياديته تمهيدا لهدمه، إلا أنه شق طريقه كما القطار ولا يلتفت يمينا ولا يسارا فقط عندما يصل إلى المحطة الحاسمة يطلق صفارته فينظر إليه الجميع.
ثلاثة رؤساء للجنة التحقيق الدولية، عملهم يسلسل حكاية القرار، لتبدأ التفاصيل الصغيرة لقضية كبيرة.
ميليس
عندما وصل المحقق الألماني ديتليف ميليس إلى لبنان بعد تكليفه من قبل مجلس الأمن برئاسة لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال رفيق الحريري في الرابع من شهر أبريل عام 2005، كانت سمعته قد سبقته إلى بيروت، فهو الملقب بالثعلب.
يتمتع ميليس (55 سنة) القاضي ورئيس المحققين الألمان في محكمة جزاء برلين، بخبرة طويلة في مجاله تصل إلى 25 سنة من التحقيقات في قضايا الإرهاب والاغتيالات السياسية والجريمة المنظمة، تواصل خلالها مع متهمين عرب وإسرائيليين وأمريكيين وألمان شرقيين مما ساعده في التعرف على أساليب عمل الاستخبارات العربية والإسرائيلية والأمريكية.
وأصبح منذ عام 1998 رئيس مكتب الاتصال في شبكة القضاء الأوروبي ومنسق محاربة الجريمة المنظمة في ولاية برلين.
خبرته هذه بدأت في المحكمة الجزائية، إذ قضى عشر سنوات في التحقيق في قضايا شهيرة؛ مثل قضية تفجير المركز الثقافي الفرنسي (ميزون) في برلين، وعشر سنوات أخرى في التحقيق في ملابسات تفجير ملهى ليلي يرتاده جنود أمريكيون في برلين عام 1986، وهو ما سمي بقضية تفجير ملهى (لابيل) التي راح ضحيتها ثلاثة قتلى ونحو 200 جريح معظمهم من الجنود الأمريكيين.
وقد برزت من خلال هذه القضايا مواقفه المتشددة إزاء الدول المتهمة بالإرهاب، مما أكسبه سمعته الكبيرة التي بلغت مسامع كوفي عنان فجعله على رأس فريقه المكلف بالتحقيق في اغتيال الحريري. ومن هنا فإن بعض معارف ميليس يقولون «إن (أكبر هدية) تلقاها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان بعد سبعة أسابيع من التفكير العميق حول من سيقود عملية التحقيق هذه، كانت وقوعه على شخص ميليس، خاصة بعد الانسحابات المتتالية لأكثر من شخصية دولية بارزة جرى بحث الأمر معها بصمت وسرية».
أبرز القلقين من قدوم ميليس كانت سورية وإيران، فتجربة النظامين السوري والإيراني مع المحقق الألماني مريرة، ليس في جريمة اغتيال الحريري بل في قضايا كثيرة سبقت هذه القضية.
فمنذ اليوم الأول لاستلامه منصبه في مطلع الثمانينات، وقع بين يدي ميليس أول ملف يرتبط بالاستخبارات السورية، وهي قضية تفجير مقر الجمعية الألمانية العربية، والمتهم بها شخصان أردنيان أحدهما من آل الهندي، هو شقيق لمتهم آخر حاول عبر مطار لندن تحميل صديقته متفجرة إلى داخل طائرة وكشف أمرها.. وفي هذه القضية كان الحديث لأول مرة عن رئيس جهاز الاستخبارات السورية في شعبة الطيران، وهو من آل السعيد. أيضا هناك قضية اغتيال زوجة عصام العطار (إخوان مسلمون) في بون، التي حملت حينها المخابرات السورية مسؤوليتها.
إضافة إلى ذلك، حقق ميليس في عملية اغتيال المعارضين الإيرانيين الأربعة من ممثلي الحزب الديمقراطي الكردستاني صادق شرفقندي، وفتاح عبدولي، وهمايون اردلان، ونوري ديهكوردي، في مطعم ميكونوس اليوناني في برلين بتاريخ 17 سبتمبر 1992 على يد مسلحين مجهولين وضعهما القضاء الألماني في السجن المؤبد بعد حكم أصدره ضدهما بتاريخ 10 أبريل 1997، واتهم النظام الإيراني بالوقوف وراء هذا الاغتيال.
وإلى جانب اتهام الدولة الإيرانية في قضية مطعم ميكونوس، فقد وجه ميليس الاتهام المباشر للدولة الليبية أيضا، وتناول شخص معمر القذافي بالاسم، في مرافعته في قضية (لابيل) أمام محكمة برلين في عام 2001، وهي أشهر القضايا التي ارتبط بها اسم ديتليف ميليس، حيث أعلن القضاء الألماني في عام 2001 وعلى ضوء تحريات ميليس ومرافعته، أن منفذ هذا العمل التخريبي هو جهاز الخدمة السرية الليبي الذي كان يتخذ من سفارة بلاده في برلين الشرقية مقرا له.
وقبل ذلك -وتحديدا في عام 1996 - كان ميليس قد وضع سورية في قفص الاتهام في قضية تفجير المركز الثقافي الفرنسي (ميزون) والقنصلية الفرنسية عام 1983، وذلك أثناء محاكمة الألماني يوهاينتس فاينرتش الساعد الأيمن للإرهابي إيليش سانشيز (كارلوس)، ونجح ميليس حينها في إثبات التهمة على فاينرتش محملا الأخير مسؤولية نقل 24 كغ من المتفجرات من رومانيا إلى ألمانيا الشرقية في أيار 1982، ومن ثم خزنها في السفارة السورية ببرلين الشرقية بعلم كامل من جهاز المخابرات الألماني الشرقي (شتازي).
التقرير الأول لديتليف ميليس في جريمة الرئيس الحريري قدمه في 21 مايو 2005، وتحدث فيه عن تورط الاستخبارات السورية ــ اللبنانية في التخطيط والتنفيذ لمؤامرة اغتيال الرئيس الحريري، ليعقد بعد شهر واحد في السابع عشر من يونيو 2005، مؤتمرا صحافيا رفع فيه صورة شاحنة الميتسوبيشي التي استعملت في الاغتيال، معلنا أن التفجير حصل بنسبة 99.9 في المائة فوق الأرض و«سنستجوب كل من كان مسؤولا عن الأمن في لبنان». وفي 25 أغسطس 2005 قدم ميليس تقريره الثاني إلى مجلس الأمن الدولي، حيث أكد فيه انعدام التجاوب السوري مع التحقيق مما أعاق بشكل كبير عمل لجنة التحقيق.
لم تكن تمضي خمسة أيام على تقرير ميليس إلا وأقدم على خطوة بمثابة الزلزال في الداخل اللبناني، حيث أوقف الضباط الأربعة قادة الأجهزة الأمنية مصطفى حمدان وريمون عازار وعلي الحاج وجميل السيد، كما استجوب النائب السابق ناصر قنديل في 31 نوفمبر 2005. طلب ميليس من أمين عام الأمم المتحدة اعفاءه من مهمته حيث قيل في حينه إن دولا كبرى وإرضاء لسورية أحرجت ميليس لإخراجه.
براميرتز
عندما بدأ بالتداول باسم القاضي البلجيكي سيرج براميرتز لخلافة ميليس، لاقى ذلك تجاوبا كبيرا في أروقة الأمم المتحدة؛ نظرا للسمعة الكبيرة التي يتمتع بها وللرصانة المعروف بها.
ولد براميرتز في 17 فبراير 1962 في مدينة أويبن البلجيكية، ودرس الحقوق في جامعة لياج، ثم حصل على درجة دكتوراه في القانون من جامعة ألبرت لودفيغ، في مدينة فرايبورغ الألمانية. ثم أخذ يتدرج في مناصبه القضائية فعين مدعيا للتاج الملكي البلجيكي في المحكمة البدائية في أويبن، مسقط رأسه سنة 1989، وتقلب في مناصب رفيعة، قبل أن يعين قاضيا وطنيا سنة 1997، ثم مدعيا عاما اتحاديا سنة 2002.
وفي 9 سبتمبر (أيلول) 2003، في الجمعية العمومية التي عقدتها الدول الموقعة لمعاهدة روما التي أنشأت محكمة الجزاء الدولية، طرحت أسماء ثلاثة قضاة لتولي منصب نائب المدعي العام في المحكمة، وهم حسن بو بكر جلو (من غامبيا) وفلاديمير توشيلوفسكي (أوكرانيا) وبراميرتس، ففاز الأخير بـ65 صوتا، لولاية ست سنوات، مع أن نظم المحكمة تسمح بولاية تستمر تسع سنوات غير قابلة للتمديد.
وقد اكتسب براميرتس خبرته في القانون الدولي لأسباب، أولها أن المنطقة التي نشأ فيها وبدأ عمله القضائي هي منطقة حدود تلتقي فيها بلاده بلجيكا بألمانيا ولوكسمبورغ، غير بعيد عن فرنسا.
وقد عمل طويلا في قضايا «عابرة للحدود» وخبر تعاون الشرطة والقضايا، على جانبي هذه الحدود، بل إنه كتب أطروحته لدرجة الدكتوراه في التعاون الدولي بين أجهزة الشرطة. وحين تولى منصبا اتحاديا في القضاء البلجيكي، كانت مهمته الأساسية تنسيق التحقيق الجنائي على المستوى الدولي. والمنصب قبل براميرتس لم يكن موجودا في سلك القضاء البلجيكي. وقد كلف فيه النظر في قضايا الإبادة وانتهاك القانون الإنساني الدولي وقضايا الإرهاب. وتولى مؤخرا قضية مجموعتين إرهابيتين حاولتا تفجير قاعدة عسكرية قرب بروكسيل. وله خبرة واسعة في تنسيق حملات واسعة النطاق، منها حملة لتنسيق عمل 500 شرطي في مداهمة 60 منزلا.
وعلى الصعيد الأوروبي أسهم براميرتس في إنشاء شبكة القضاء الأوروبي، وهي في الأساس فكرة بلجيكية قبل أن يعتمدها الاتحاد الأوروبي. وقد تولى في السابق رئاسة هذه الشبكة.
قدم القاضي براميرتز تقريره الأول لمجلس الامن في 16 مارس 2006 وجاء مقتضبا وعموميا كترجمة لبداية عمله على رأس لجنة التحقيق ليفاجئ الجميع في التقرير الثاني الذي قدمه 25 سبتمبر 2006، حيث رجح فرضية حصول اغتيال الرئيس الحريري بعملية تفجير انتحاري بـ1800 كلغ من المتفجرات.
ثم كانت المفاجأة الثانية بتقريره الثالث في 13 يناير 2006، حيث ربط قضية اغتيال الرئيس الحريري بالتفجيرات والاغتيالات الـ14 الأخرى التي حصلت في لبنان بعد اغتيال الحريري. ثم كان تقريره الرابع من دون أية تفاصيل بارزة سوى التأكيد على تحقيق تقدم ليعود إلى مفاجأة الجميع في تقريره الخامس في 12 يوليو 2007، حيث تحدث للمرة الأولى عن تحديد متهمين ولا يكشف هوياتهم ليقدم استقالته بعد ذلك لأسباب خاصة كما صرح في حينه.
بلمار
إنه (الصامت)، هكذا لقب في لبنان، فمجيء شخص قضى معظم حياته الاحترافية في وظيفة الادعاء العام والتنسيق الدولي لاسترداد المطلوبين ومكافحة الجريمة العابرة للحدود، له دلالات عدة، سواء لناحية شبه انتهاء التحقيق أو لناحية الدور الذي سيضطلع به المدعي العام لدى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وربما هذه السلاسة وهذا الهدوء الذي تتم فيه أعمال التحضير لتسلم المحكمة ملف لجنة التحقيق الضخم ليس في حقيقة الأمر إلا الهدوء الذي يسبق العاصفة التي ستضرب لبنان.
ولد دانييل بلمار في مقاطعة كيبك الكندية الفرنكوفونية. بدأ مسيرته القضائية عام 1976 كمدع عام في مقاطعة مونتريال. انتقل بعدها إلى العاصمة أوتاوا حيث عمل في إطار تطوير القانون الجزائي لدى وزارة العدل وترأس مركزا متقدما فيها. وفي حزيران 1993 شغل منصب مساعد نائب المدعي العام الفدرالي وترأس مرفق الادعاء الفدرالي الذي يضم مجموعة التنسيق الدولية المختص بمسائل الاسترداد (استرداد وتسليم المجرمين أو المشتبه بهم) والتعاون القانوني في القضايا الجنائية. وتشمل صلاحيات هذا المرفق كل مقاطعات كندا العشر، ويتولى بالإضافة إلى الادعاء العام مهمة تأهيل عناصر الأمن على القوانين الجديدة وتدريب المدعين العامين في الدول الأخرى.
بالإضافة إلى ذلك، شارك بلمار في تأسيس جمعية المدعين العامين الدولية التي شغل فيها منصب نائب الرئيس لولايتين.
يقول بلمار «ليس من السهل أن تكون مدعيا عاما، فالأمر يشكل غالبا رحلة موحشة وامتحانا لطباع الإنسان، ويتطلب قوة داخلية وثقة بالنفس، بالإضافة إلى الترفع والأخلاق المنزهة. كذلك تتطلب هذه المهمة التواضع والإرادة للاعتراف بالأخطاء واتخاذ الخطوات المناسبة لتصحيحها. فعلى المدعي العام أن يهوى المسائل التي بين يديه ولكن عليه أن يقاربها بتعاطف، منقادا إليها بالإنصاف والمنطق السليم».
القاضي بلمار في تقريره الأول لمجلس الأمن في 28 مارس 2008، أشار إلى أن شبكة إجرامية اغتالت الحريري وبقي جزء منها يواصل عمله، ليعود ويكشف في 12 ديسمبر 2008 عن توصله لكشف متورطين جدد في شبكة الاغتيال وروابط مع الجرائم الأخرى ليعلن في 11 مارس 2011 أنه أودع القاضي فرانسين القرار الاتهامي الذي أعلن في 30 يونيو 2011، معلنا وصول قطار التحقيق إلى محطة المحكمة.
من (الثعلب) ميليس إلى (الصامت) بلمار وما بينهما المتخصص بالقضايا العابرة للحدود براميرتز، بدأت حكاية القرار الاتهامي الذي لطالما كان شاغل الناس في لبنان وخارجه، فخلال كل السنوات الفائتة مواعيد كثيرة ضربت لصدوره وتسريبات أكثر قيلت عن مضمونه وتشكيك كبير قاده أمين عام حزب الله حسن نصرالله حول حياديته تمهيدا لهدمه، إلا أنه شق طريقه كما القطار ولا يلتفت يمينا ولا يسارا فقط عندما يصل إلى المحطة الحاسمة يطلق صفارته فينظر إليه الجميع.
ثلاثة رؤساء للجنة التحقيق الدولية، عملهم يسلسل حكاية القرار، لتبدأ التفاصيل الصغيرة لقضية كبيرة.
ميليس
عندما وصل المحقق الألماني ديتليف ميليس إلى لبنان بعد تكليفه من قبل مجلس الأمن برئاسة لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال رفيق الحريري في الرابع من شهر أبريل عام 2005، كانت سمعته قد سبقته إلى بيروت، فهو الملقب بالثعلب.
يتمتع ميليس (55 سنة) القاضي ورئيس المحققين الألمان في محكمة جزاء برلين، بخبرة طويلة في مجاله تصل إلى 25 سنة من التحقيقات في قضايا الإرهاب والاغتيالات السياسية والجريمة المنظمة، تواصل خلالها مع متهمين عرب وإسرائيليين وأمريكيين وألمان شرقيين مما ساعده في التعرف على أساليب عمل الاستخبارات العربية والإسرائيلية والأمريكية.
وأصبح منذ عام 1998 رئيس مكتب الاتصال في شبكة القضاء الأوروبي ومنسق محاربة الجريمة المنظمة في ولاية برلين.
خبرته هذه بدأت في المحكمة الجزائية، إذ قضى عشر سنوات في التحقيق في قضايا شهيرة؛ مثل قضية تفجير المركز الثقافي الفرنسي (ميزون) في برلين، وعشر سنوات أخرى في التحقيق في ملابسات تفجير ملهى ليلي يرتاده جنود أمريكيون في برلين عام 1986، وهو ما سمي بقضية تفجير ملهى (لابيل) التي راح ضحيتها ثلاثة قتلى ونحو 200 جريح معظمهم من الجنود الأمريكيين.
وقد برزت من خلال هذه القضايا مواقفه المتشددة إزاء الدول المتهمة بالإرهاب، مما أكسبه سمعته الكبيرة التي بلغت مسامع كوفي عنان فجعله على رأس فريقه المكلف بالتحقيق في اغتيال الحريري. ومن هنا فإن بعض معارف ميليس يقولون «إن (أكبر هدية) تلقاها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان بعد سبعة أسابيع من التفكير العميق حول من سيقود عملية التحقيق هذه، كانت وقوعه على شخص ميليس، خاصة بعد الانسحابات المتتالية لأكثر من شخصية دولية بارزة جرى بحث الأمر معها بصمت وسرية».
أبرز القلقين من قدوم ميليس كانت سورية وإيران، فتجربة النظامين السوري والإيراني مع المحقق الألماني مريرة، ليس في جريمة اغتيال الحريري بل في قضايا كثيرة سبقت هذه القضية.
فمنذ اليوم الأول لاستلامه منصبه في مطلع الثمانينات، وقع بين يدي ميليس أول ملف يرتبط بالاستخبارات السورية، وهي قضية تفجير مقر الجمعية الألمانية العربية، والمتهم بها شخصان أردنيان أحدهما من آل الهندي، هو شقيق لمتهم آخر حاول عبر مطار لندن تحميل صديقته متفجرة إلى داخل طائرة وكشف أمرها.. وفي هذه القضية كان الحديث لأول مرة عن رئيس جهاز الاستخبارات السورية في شعبة الطيران، وهو من آل السعيد. أيضا هناك قضية اغتيال زوجة عصام العطار (إخوان مسلمون) في بون، التي حملت حينها المخابرات السورية مسؤوليتها.
إضافة إلى ذلك، حقق ميليس في عملية اغتيال المعارضين الإيرانيين الأربعة من ممثلي الحزب الديمقراطي الكردستاني صادق شرفقندي، وفتاح عبدولي، وهمايون اردلان، ونوري ديهكوردي، في مطعم ميكونوس اليوناني في برلين بتاريخ 17 سبتمبر 1992 على يد مسلحين مجهولين وضعهما القضاء الألماني في السجن المؤبد بعد حكم أصدره ضدهما بتاريخ 10 أبريل 1997، واتهم النظام الإيراني بالوقوف وراء هذا الاغتيال.
وإلى جانب اتهام الدولة الإيرانية في قضية مطعم ميكونوس، فقد وجه ميليس الاتهام المباشر للدولة الليبية أيضا، وتناول شخص معمر القذافي بالاسم، في مرافعته في قضية (لابيل) أمام محكمة برلين في عام 2001، وهي أشهر القضايا التي ارتبط بها اسم ديتليف ميليس، حيث أعلن القضاء الألماني في عام 2001 وعلى ضوء تحريات ميليس ومرافعته، أن منفذ هذا العمل التخريبي هو جهاز الخدمة السرية الليبي الذي كان يتخذ من سفارة بلاده في برلين الشرقية مقرا له.
وقبل ذلك -وتحديدا في عام 1996 - كان ميليس قد وضع سورية في قفص الاتهام في قضية تفجير المركز الثقافي الفرنسي (ميزون) والقنصلية الفرنسية عام 1983، وذلك أثناء محاكمة الألماني يوهاينتس فاينرتش الساعد الأيمن للإرهابي إيليش سانشيز (كارلوس)، ونجح ميليس حينها في إثبات التهمة على فاينرتش محملا الأخير مسؤولية نقل 24 كغ من المتفجرات من رومانيا إلى ألمانيا الشرقية في أيار 1982، ومن ثم خزنها في السفارة السورية ببرلين الشرقية بعلم كامل من جهاز المخابرات الألماني الشرقي (شتازي).
التقرير الأول لديتليف ميليس في جريمة الرئيس الحريري قدمه في 21 مايو 2005، وتحدث فيه عن تورط الاستخبارات السورية ــ اللبنانية في التخطيط والتنفيذ لمؤامرة اغتيال الرئيس الحريري، ليعقد بعد شهر واحد في السابع عشر من يونيو 2005، مؤتمرا صحافيا رفع فيه صورة شاحنة الميتسوبيشي التي استعملت في الاغتيال، معلنا أن التفجير حصل بنسبة 99.9 في المائة فوق الأرض و«سنستجوب كل من كان مسؤولا عن الأمن في لبنان». وفي 25 أغسطس 2005 قدم ميليس تقريره الثاني إلى مجلس الأمن الدولي، حيث أكد فيه انعدام التجاوب السوري مع التحقيق مما أعاق بشكل كبير عمل لجنة التحقيق.
لم تكن تمضي خمسة أيام على تقرير ميليس إلا وأقدم على خطوة بمثابة الزلزال في الداخل اللبناني، حيث أوقف الضباط الأربعة قادة الأجهزة الأمنية مصطفى حمدان وريمون عازار وعلي الحاج وجميل السيد، كما استجوب النائب السابق ناصر قنديل في 31 نوفمبر 2005. طلب ميليس من أمين عام الأمم المتحدة اعفاءه من مهمته حيث قيل في حينه إن دولا كبرى وإرضاء لسورية أحرجت ميليس لإخراجه.
براميرتز
عندما بدأ بالتداول باسم القاضي البلجيكي سيرج براميرتز لخلافة ميليس، لاقى ذلك تجاوبا كبيرا في أروقة الأمم المتحدة؛ نظرا للسمعة الكبيرة التي يتمتع بها وللرصانة المعروف بها.
ولد براميرتز في 17 فبراير 1962 في مدينة أويبن البلجيكية، ودرس الحقوق في جامعة لياج، ثم حصل على درجة دكتوراه في القانون من جامعة ألبرت لودفيغ، في مدينة فرايبورغ الألمانية. ثم أخذ يتدرج في مناصبه القضائية فعين مدعيا للتاج الملكي البلجيكي في المحكمة البدائية في أويبن، مسقط رأسه سنة 1989، وتقلب في مناصب رفيعة، قبل أن يعين قاضيا وطنيا سنة 1997، ثم مدعيا عاما اتحاديا سنة 2002.
وفي 9 سبتمبر (أيلول) 2003، في الجمعية العمومية التي عقدتها الدول الموقعة لمعاهدة روما التي أنشأت محكمة الجزاء الدولية، طرحت أسماء ثلاثة قضاة لتولي منصب نائب المدعي العام في المحكمة، وهم حسن بو بكر جلو (من غامبيا) وفلاديمير توشيلوفسكي (أوكرانيا) وبراميرتس، ففاز الأخير بـ65 صوتا، لولاية ست سنوات، مع أن نظم المحكمة تسمح بولاية تستمر تسع سنوات غير قابلة للتمديد.
وقد اكتسب براميرتس خبرته في القانون الدولي لأسباب، أولها أن المنطقة التي نشأ فيها وبدأ عمله القضائي هي منطقة حدود تلتقي فيها بلاده بلجيكا بألمانيا ولوكسمبورغ، غير بعيد عن فرنسا.
وقد عمل طويلا في قضايا «عابرة للحدود» وخبر تعاون الشرطة والقضايا، على جانبي هذه الحدود، بل إنه كتب أطروحته لدرجة الدكتوراه في التعاون الدولي بين أجهزة الشرطة. وحين تولى منصبا اتحاديا في القضاء البلجيكي، كانت مهمته الأساسية تنسيق التحقيق الجنائي على المستوى الدولي. والمنصب قبل براميرتس لم يكن موجودا في سلك القضاء البلجيكي. وقد كلف فيه النظر في قضايا الإبادة وانتهاك القانون الإنساني الدولي وقضايا الإرهاب. وتولى مؤخرا قضية مجموعتين إرهابيتين حاولتا تفجير قاعدة عسكرية قرب بروكسيل. وله خبرة واسعة في تنسيق حملات واسعة النطاق، منها حملة لتنسيق عمل 500 شرطي في مداهمة 60 منزلا.
وعلى الصعيد الأوروبي أسهم براميرتس في إنشاء شبكة القضاء الأوروبي، وهي في الأساس فكرة بلجيكية قبل أن يعتمدها الاتحاد الأوروبي. وقد تولى في السابق رئاسة هذه الشبكة.
قدم القاضي براميرتز تقريره الأول لمجلس الامن في 16 مارس 2006 وجاء مقتضبا وعموميا كترجمة لبداية عمله على رأس لجنة التحقيق ليفاجئ الجميع في التقرير الثاني الذي قدمه 25 سبتمبر 2006، حيث رجح فرضية حصول اغتيال الرئيس الحريري بعملية تفجير انتحاري بـ1800 كلغ من المتفجرات.
ثم كانت المفاجأة الثانية بتقريره الثالث في 13 يناير 2006، حيث ربط قضية اغتيال الرئيس الحريري بالتفجيرات والاغتيالات الـ14 الأخرى التي حصلت في لبنان بعد اغتيال الحريري. ثم كان تقريره الرابع من دون أية تفاصيل بارزة سوى التأكيد على تحقيق تقدم ليعود إلى مفاجأة الجميع في تقريره الخامس في 12 يوليو 2007، حيث تحدث للمرة الأولى عن تحديد متهمين ولا يكشف هوياتهم ليقدم استقالته بعد ذلك لأسباب خاصة كما صرح في حينه.
بلمار
إنه (الصامت)، هكذا لقب في لبنان، فمجيء شخص قضى معظم حياته الاحترافية في وظيفة الادعاء العام والتنسيق الدولي لاسترداد المطلوبين ومكافحة الجريمة العابرة للحدود، له دلالات عدة، سواء لناحية شبه انتهاء التحقيق أو لناحية الدور الذي سيضطلع به المدعي العام لدى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وربما هذه السلاسة وهذا الهدوء الذي تتم فيه أعمال التحضير لتسلم المحكمة ملف لجنة التحقيق الضخم ليس في حقيقة الأمر إلا الهدوء الذي يسبق العاصفة التي ستضرب لبنان.
ولد دانييل بلمار في مقاطعة كيبك الكندية الفرنكوفونية. بدأ مسيرته القضائية عام 1976 كمدع عام في مقاطعة مونتريال. انتقل بعدها إلى العاصمة أوتاوا حيث عمل في إطار تطوير القانون الجزائي لدى وزارة العدل وترأس مركزا متقدما فيها. وفي حزيران 1993 شغل منصب مساعد نائب المدعي العام الفدرالي وترأس مرفق الادعاء الفدرالي الذي يضم مجموعة التنسيق الدولية المختص بمسائل الاسترداد (استرداد وتسليم المجرمين أو المشتبه بهم) والتعاون القانوني في القضايا الجنائية. وتشمل صلاحيات هذا المرفق كل مقاطعات كندا العشر، ويتولى بالإضافة إلى الادعاء العام مهمة تأهيل عناصر الأمن على القوانين الجديدة وتدريب المدعين العامين في الدول الأخرى.
بالإضافة إلى ذلك، شارك بلمار في تأسيس جمعية المدعين العامين الدولية التي شغل فيها منصب نائب الرئيس لولايتين.
يقول بلمار «ليس من السهل أن تكون مدعيا عاما، فالأمر يشكل غالبا رحلة موحشة وامتحانا لطباع الإنسان، ويتطلب قوة داخلية وثقة بالنفس، بالإضافة إلى الترفع والأخلاق المنزهة. كذلك تتطلب هذه المهمة التواضع والإرادة للاعتراف بالأخطاء واتخاذ الخطوات المناسبة لتصحيحها. فعلى المدعي العام أن يهوى المسائل التي بين يديه ولكن عليه أن يقاربها بتعاطف، منقادا إليها بالإنصاف والمنطق السليم».
القاضي بلمار في تقريره الأول لمجلس الأمن في 28 مارس 2008، أشار إلى أن شبكة إجرامية اغتالت الحريري وبقي جزء منها يواصل عمله، ليعود ويكشف في 12 ديسمبر 2008 عن توصله لكشف متورطين جدد في شبكة الاغتيال وروابط مع الجرائم الأخرى ليعلن في 11 مارس 2011 أنه أودع القاضي فرانسين القرار الاتهامي الذي أعلن في 30 يونيو 2011، معلنا وصول قطار التحقيق إلى محطة المحكمة.