الـ «زمكانيون»

ميرغني معتصم

لنا أن نستجلب من إيقاع الحدث تلك العلاقة التفاعلية بين الإنسان والمكان..
هي تلك التبادلية بين الاعتمال الشخصي في واقعيته وذاكرته المكانية في حدثه. وارتبط ذلك جدليا بالمحصلة التاريخية التي تتميز بها التجربة الإنسانية العامة منذ نماذجها المعاشة الأولى. لذلك، كانت الذات المسحوقة في معظم تجلياتها في الحدث الحياتي، تفصح عن مكنونات مكانية واقعية، كيفما كان الشجن الذاتي الذي يدفعها. هذا المسرد، أفضى إلى الدوافع غير المباشرة التي تربط الذات الناقمة الجديدة بالمكان ورمزيته، فالذاكرة المعرفية لهذه الذات، تشكل النماذج، الوجوه، الصور الاحتجاجية، الشعارات العامية، التناص التاريخي وحتى الأسطوري.
وهذا، ليس ضربا من محاولة الربط القسري بين إنسان جغرافيا القاهرة، أو فسطاط التاريخ في احتجاجيته الحالية لصياغة تاريخ جديد، فليس هذا المبتغى بقدر سبر ماهية المكان ودلالاته في النفس والذاكرة البشرية.
لن تستغرقنا النظرة المركزية التي تختزل مصر في القاهرة، وتضعها موضع المركز، فهي ذات نسق متمدد يفقد أساسا طبيعة التجمع المركزي إن توخينا التوسع العمراني لهذه العاصمة التليدة المكتسب التاريخي، بعد الانفجار السكاني في الأحياء التي نشأت حديثا وماعداها، ما أعطى إحساسا بتشتت السمة العمرانية للعاصمة المصرية، وتفرق وجدانها بين الأحياء. وحري بنا أن نحفظ لميدان التحرير انبعاثه حالة رمزية لقلب المدينة المتحدث باسم العاصمة التي كادت تتفكك إلى كوميونات لا تربطها سوى الشرايين الأسفلتية. وبقي القلب زمنا منحسر القيمة الحضرية والاجتماعية إلا من أضواء النيون التي تحاول أن تثبت أن قلب القاهرة كان هنا.
يظل المكان، في ماهيته الزمانية، تعبيرا بصريا عن سمة المجتمع ونبض حراكه، إلا أن علاقتهما ليست تمازجية، أي أن تصبح «زمكانية» ، فأحيانا هما الحالة الحضرية التي يود المجتمع أن يكون عليها، وأخرى يكونان رمزا من رموز السلطة التي تستدعي معاداتهما أو تحريرهما.
استوقفني قول الكاتبة علا المنصوري ضمن نقديتها للزمان والمكان في تشكيلية لغوية إذ لا تنفي أن لا يخلو أي مشهد يجتمع فيه المختلفون في وحدة واحدة من إقصاء خفي، فمركزية «التحرير» ربما تكون قد أقصت هامشا، والطابع الحضري الذي غلب على الثورة، لم يحظ بمشاركة الريف، بل إن غياب العنف والأسماء السياسية اللامعة والقادة عن مشهد التحرير
ــ وهو الأمر الذي يعد من الإيجابيات غير المعتادة للثورة ــ لا يعني اختفاءهم عن المشهد السياسي خارج الميدان. وهذا التعامل مع أطراف ولاعبين خارج مشهد الميدان، هو أحد التحديات التي تواجه استمرار ميدان التحرير رمزا للوحدة، والتغيير السلمي، والإجماع حول أهداف وطنية مشتركة.
إن المكان يكتسب رمزيته السياسية من إمكانات الفعل التي يمتلكها ويجسدها الفاعلون السياسيون، ومن المثير والفارق في حالة ميدان التحرير أنه برز نموذج الفعل السياسي الشعبي الجامع والموحد، والمدعوم بقيم معيارية وأخلاق وضعته مصاف الرمز حضريا، اجتماعيا، وسياسيا.

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 242 مسافة ثم الرسالة