الشيخ عبد الحفيظ فدا المربي الوراق .. مسيرة حياة حميدة «1335 ــ 1432هـ»
الخميس / 06 / محرم / 1433 هـ الخميس 01 ديسمبر 2011 22:12
عبدالوهاب إبراهيم أبوسليمان
انتقل إلى رحمة الله الشيخ عبدالحفيظ بن عبدالفتاح فدا يوم الأحد الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة عام 1432هـ، الموافق 20 نوفمبر 2011م، صلي عليه صلاة الميت الحاضر بعد صلاة الفجر بالمسجد الحرام يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة عام 1432هـ، ثم ووري مقره الأخير بمقابر المعلاة.
الشيخ عبدالحفيظ فدا رحمه الله تعالى أحد أبناء مكة المشرفة الأوفياء، المهتمين بتراث الأمة الإسلامي العلمي والحضاري.
ينتمي رحمه الله تعالى إلى أسرة مكية عريقة، طالما خدمت الجانب الثقافي بحب، وإخلاص، كان لها الفضل والمنة على الأمة الإسلامية بعامة، والشعب السعودي بخاصة لموقعها في مكة المكرمة، وطيبة الحبيبة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام لتلبية ما يحتاجونه من الكتب العلمية، والأدبية، والدراسية.
نشأ الشيخ عبدالحفيظ رحمه الله تعالى في بيت والده الشيخ عبدالفتاح رحمه الله تعالى مع إخوانه بحي الواسطة بين محلة أجياد والمسفلة.
درس في كتاب الشيخ محمد العبادي، وعندما بلغ العاشرة من عمره التحق بمدرسة الفلاح بمكة المكرمة عام 1345هـ ابتداء من السنة الثالثة التحضيرية حتى تخرج منها بالشهادة الثانوية من العام 1355هـ.
التحق بسلك التدريس بمدرسة الفلاح منذ غرة ربيع الأول من عام 1356هـ ودرس الفقه، والتاريخ، والإملاء، والإنشاء، وواصل التدريس بها إلى أن انتقلت المدرسة إلى محلة الشبيكة، وأسند إليه أخيرا عمل «أمين المكتبة» حتى اعتزل العمل في أواخر شهر رجب من عام 1405هـ، وكانت مدة خدمته في المدرسة قرابة ثمانية وأربعين عاما.
درس على عدد من العلماء بمدرسة الفلاح والمسجد الحرام جاء سرد أسمائهم فيما أسعفته ذاكرته قائلا: «وخلال تلك الفترة التعليمية الحافلة مررت ببعض الأساتذة الأفاضل ممن لهم الفضل في تعليمي، وبعض الشخصيات ممن عاصرتهم في ذاكرتي، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الأستاذ المربي الفاضل عبدالله حمودة مدير المدرسة، والأستاذ محمد الطيب المراكشي، والأستاذ محمد العربي الجزائري التباني، والسيد أبو بكر الحبشي مدير المدرسة، والشيخ يحيى أمان، والشيخ حسن السناري، والسيد محمد أمين كتبي رحمة الله عليهم أجمعين.
وممن درست عليه أنا وأخي إبراهيم رحمه الله، وبعض الإخوان من الأساتذة مثل: إبراهيم سجيني، وحمزة خوج سواء في المسجد الحرام، أو في بيته، وفي غرفة برابط بقاعة الشفاء، كنا ندرس الفقه، والأصول، والفرائض، وبقية الأساتذة محمد عبدالماجد، محمد شيخ حمدي، حامد كعكي، حسن حسنين، والسيد علوي المالكي، والشيخ محمد نور سيف، والسادة إبراهيم نوري، وأخوه محمد، والأستاذ المربي السيد إسحاق عزوز، والسيد محمد رضوان، وكانا مديري المدرسة بالتعاقب، كما أذكر بعض الأساتذة ممن زاملتهم في مجال التدريس: الأستاذ أحمد عبدالماجد، والأستاذ عبدالرحمن دوم، والأستاذ قاسم شاولي، وغيرهم رحم الله من وافته المنية منهم، وأمد في عمر الباقين بالصحة والعافية وبارك الله فيهم».
عمل بتجارة الكتب مع والده بباب السلام ثم مع أخيه الشيخ عبدالشكور فدا بمكتبة النهضة الحديثة واستمرا بالعمل إلى أن انتقلا إلى محلة الشامية، ثم استقل بمكتبته (مكتبة الفكر العربي) بباب العمرة حوالي عشرين عاما إلى أن اعتزل التجارة عام 1410هـ لظروفه الصحية.
الشيخ عبدالحفيظ فدا من رجال التربية والتعليم المكيين، وأحد الأساتذة الفضلاء المرموقين، والمربين، القديرين سابقا بمدرسة الفلاح المكية، جمع بين عملين متجانسين، متوافقين: التدريس، وبيع الكتب (الوراقة) قلما تجتمع في فرد واحد، يمتلك ناصيتهما، ويبرز في آفاقهما.
الوراقة سابقا حرفة المثقفين من علماء وأدباء، كان لهم طابع وسمات خاصة لتشجيع الناشئة، ونصحهم بما يعود عليهم بالنفع في دراساتهم، كانت المادة وسيلة لديهم، وليست غاية، فلهذا أشاد بذكرهم كبار أدبائنا أمثال الشيخ عبدالعزيز رفاعي في كتابه (رحلتي مع المكتبات) وتلاه في التنويه بجهودهم العلمية، والمعرفية، وتعاملهم الرفيع مع عملائهم من المثقفين، والطلاب كتاب (مكتبات باب السلام في المسجد الحرام ودور مكتباته في النهضة العلمية والأدبية) وغيرها.
تميز الشيخ عبدالحفيظ رحمه الله تعالى بهدوئه، وحكمته، قليل الحديث، إذا تحدث فهو يتحدث بحكمة وتعقل، وفي إيجاز مفيد، يحترمه العلماء، فله في نفوسهم كل حب وتقدير، وبحكم احتكاكه بهم، وجمعه بين التدريس، وحرفة الوراقة فإن لديه الاطلاع الواسع، والمعرفة التامة بالكتب، وموضوعاتها، وإرشاد الطلاب إلى المفيد منها، مجلسه لا يخلو من عالم يذاكره، أو طالب علم ينصحه، ويفيده بما يحتاج إليه من كتب وإن لم يكن هذا ولا ذاك ذكر الله في نفسه، وتأمل ما حوله.
أثر مكتبة النهضة الحديثة في الحركة العلمية
تعد هذه المكتبة إحدى ركائز تاريخنا الحضاري في العصر الحديث، صاحبا هذه المكتبة الأخوان الشيخان عبدالحفيظ وعبدالشكور فدا ــ رحمهما الله تعالى ــ شخصيتان، متميزتان بخبراتهما الطويلة وممارستهما لهذا العمل منذ نعومة أظفارهما، مشهوران في الساحة العلمية لهما شهرتهما الواسعة داخل مكة المكرمة وخارجها، أصبحت هذه المكتبة بسبب هذا النشاط المتآزر بين الأخوين من أهم المكتبات بباب السلام التي تزود الساحة العلمية بأهم المصادر، والمراجع، والكتب النادرة، خصوصا المطبوع منها في دار الخلافة العثمانية، التي توقف الطبع فيها للكتب الإسلامية، كما يجد فيها الأدباء، وعاشقو العلم، والثقافة بغيتهم من الإصدارات الجديدة.
لهذه المكتبة أثرها الكبير في النهضة الثقافية في المملكة بما أمدت به الساحة العلمية من طبع الكتب، ونشرها، وتوريدها من البلاد الإسلامية، ومما يذكره التاريخ لهذه المكتبة أنه كان لها فضل الإسهام في تكوين المكتبات الجامعية في بلادنا مثل:
مكتبة جامعة أم القرى (كلية الشريعة والتربية سابقا)، ومكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، ومكتبة الحرم المكي الشريف، وتعد المصدر الرئيس في تكوين مكتبة الأديب الكبير معالي الشيخ محمد سرور الصبان التي ضمت أخيرا إلى جامعة أم القرى.
قامت مكتبة النهضة الحديثة في عهد الشراكة بين الأخوين الشيخ عبدالحفيظ، والشيخ عبد الشكور فدا بطبع كثير من المصادر، والكتب المهمة من أهمها:
• صحيح الإمام أبي عبدالله البخاري، عام 1376هـ فقد خدما هذا الكتاب الجليل خدمة جليلة غير مسبوقة، حيث نشراه نشرا علميا، استكتبا له العلماء المتخصصين، قام بتحقيقه، والتعليق عليه: العلامة محمود نواوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، ومحمد خفاجي. تمتاز هذه الطبعة عن غيرها من الطبعات بحل الرموز. وعمل فهارس للأحاديث. وعناوين الموضوعات، وأماكنها في الشروح المطبوعة.
• كتاب شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، تأليف العلامة الحافظ أبو الطيب تقي الدين محمد بن علي الفاسي، المكي المالكي (775 ــ 832هـ) الطبعة الأولى، بتحقيق، وتعليق لجنة من كبار العلماء والأدباء، وذلك عام 1956م، ضم في نهاية الكتاب مجموعة من الكتب والدراسات المهمة التي تتعلق بالحرمين الشريفين هي:
الملحق الأول: ولاة مكة المكرمة بعد الفاسي من تأليف العلامة المؤرخ المحدث الشيخ عبدالستار الصديقي الحنفي ابن المرحوم الشيخ عبدالوهاب المبارك المكي، البكري.
الملحق الثاني: الدرة الثمينة في تاريخ المدينة: للمؤرخ الحافظ الشيخ محمد بن محمود بن النجار.
الملحق الثالث: العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف منذ إنشائه حتى فترة طبع الكتاب. وفوائد أخرى عن المدينة من كتاب توسعة الحرم النبوي الشريف للأستاذين: هاشم دفتردار، وجعفر فقيه.
الملحق الرابع: بعض آثار المدينة المنورة، والزارات، وغيرها. أعيد طبع هذا الكتاب وتصويره عدة مرات بعد هذه الطبعة، ووضع عليها أسماء بعض المحققين، ولكن تظل طبعة هذه المكتبة الأصح، والأفضل بينها.
ظلت مكتبة النهضة الحديثة شركة بين الأخوين الشيخ عبدالحفيظ فدا، وأخيه الشيخ عبدالشكور فدا، واستمر التعاون بينهما، بقيت الأمور كذلك حتى جاء أمر توسعة المسجد الحرام من الجهة الشرقية فاستقل كل واحد منهما بمكتبة خاصة به، استقل الشيخ عبدالحفيظ فدا، وأسس «مكتبة الفكر العربي»، واحتفظ الشيخ عبدالشكور فدا باسم «مكتبة النهضة الحديثة»، وأضاف إلى العنوان مطبعة ليكون «مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة».
مكتبة الفكر العربي
افتتح الشيخ عبدالحفيظ فدا مكتبته الجديدة «مكتبة الفكر العربي» بقاعة الشقا بحي الشامية، ثم انتقل بعد ذلك إلى باب العمرة في دكاكين مشروع الحرم الشريف.
أما دور هذه المكتبة في النهضة العلمية فقد نوه عنها الأديب الراحل الأستاذ عبدالغني ابن الأديب الشيخ عبدالله فدا رحمه الله قائلا: «قامت هذه المكتبة بدور كبير بإحضار كتب كثيرة من المكتبات المشهورة بمصر مثل: المكتبة التجارية الكبرى بشارع محمد علي، وأيضا دار المعارف بشارع الفجالة لإحضار كتب قصص الأطفال وغيرها من الكتب الأدبية، ومن مكتبة النهضة المصرية، وأخيرا المكتبة العالمية بالفجالة، ونشرت بعض المتون من الكتب العلمية، وأخيرا أغلقت أبوابها من أول عام 1408هـ.
في ما يخص كتاب التاريخ الحضاري (باب السلام ودور مكتباته في الحركة العلمية والأدبية الحديثة) فقد كان الشيخ عبدالحفيظ فدا وأخوه الشيخ عبدالشكور فدا رحمهما الله وقد أفنيا زهرة شبابهما في خدمة الكتب، ودرجا في ساحة مكتباته، فكانت لهما الخبرة الواسعة بهذا النشاط، والمعرفة التامة بأصحاب المكتبات به، لا جرم أن يكون الشيخ عبدالحفيظ وهو الأكبر سنا المعضد والمساعد، والمشجع على تشجيع مشروع هذا الكتاب فكان يرعى العمل، يسدد، ويذكر، ويصحح، فغدا لحضوره مع شقيقه الشيخ عبدالشكور فدا رحمهما الله تعالى الأثر الكبير لإبراز العمل، والتأكد من صحة المعلومات وإخراج كتاب (باب السلام) في شكل سليم قويم.
في سبيل إكمال هذا العلم كانت تضم ثلاثتنا جلسات وجلسات، متقاربة حينا، متباعدة حينا آخر، يتكرم الشيخ عبدالحفيظ فدا، وشقيقه الشيخ عبدالشكور بتشريفي بمنزلي في حي العزيزية لتدوين ما تجمع من معلومات، والتشاور في ما ينبغي عمله في كل مرحلة.
واصل الشيخ عبدالحفيظ رحمه الله متابعة العمل بعد وفاة أخيه الشيخ عبدالشكور رحمه الله، فكان المرجع المعتمد، والعون الكبير بعد المولى عز وجل، وحمد لأبناء أخيه جهودهم في إخراج كتاب باب السلام إخراجا يليق بمكان ومكانة المكتبات به التي كانت بحق معلما حضاريا جوار الحرم الشريف، تتوافق، وتنسجم، مع رسالة الهدى، ومنبع النور مكة المكرمة.
شاء المولى عز وجل بفضله وكرمه أن يرى هذا العمل التاريخي الحضاري النور والشيخ عبدالحفيظ في صحة جيدة والحمد لله، وتوالت زيارته في منزل ابنه المهندس خالد فدا حفظه الله بحي العزيزية بمكة المكرمة، فكان رحمه الله تعالى مغتبطا بإخراج هذا الكتاب، حاثا من يحضره على إبراز الجانب الحضاري لمكة المكرمة قبل أن يرحل البقية الباقية ممن حضر الحقبة التاريخية الماضية، ضاعف الله له الأجر على كل ما قدم لأمته وتراثها النفيس إنه سميع مجيب.
من الجدير بالذكر أن الشيخ عبدالحفيظ فدا يعد آخر المكتبيين بباب السلام، وقد سبقته وفاة الأستاذ عبدالله بن محمد سعيد العرابي، حيث توفي يوم الاحد 20 جمادى الأولى 1432هـ، الموافق 24 أبريل 2011م، رحمهما الله، ورحم السابقين من أبناء مهنتهم.
العزاء الجميل لأولاد الفقيد رحمه الله تعالى ذكورا وإناثا، ولذوي قرابته، وأصدقائه، وكل مهتم بالعلم والثقافة، والدعاء خالصا للمولى جل وعلا أن يسكنه فسيح جنانه، ويخلفه في كل من يعز عليه، والحمد لله رب العالمين.
* عضو هيئة كبار العلماء
الشيخ عبدالحفيظ فدا رحمه الله تعالى أحد أبناء مكة المشرفة الأوفياء، المهتمين بتراث الأمة الإسلامي العلمي والحضاري.
ينتمي رحمه الله تعالى إلى أسرة مكية عريقة، طالما خدمت الجانب الثقافي بحب، وإخلاص، كان لها الفضل والمنة على الأمة الإسلامية بعامة، والشعب السعودي بخاصة لموقعها في مكة المكرمة، وطيبة الحبيبة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام لتلبية ما يحتاجونه من الكتب العلمية، والأدبية، والدراسية.
نشأ الشيخ عبدالحفيظ رحمه الله تعالى في بيت والده الشيخ عبدالفتاح رحمه الله تعالى مع إخوانه بحي الواسطة بين محلة أجياد والمسفلة.
درس في كتاب الشيخ محمد العبادي، وعندما بلغ العاشرة من عمره التحق بمدرسة الفلاح بمكة المكرمة عام 1345هـ ابتداء من السنة الثالثة التحضيرية حتى تخرج منها بالشهادة الثانوية من العام 1355هـ.
التحق بسلك التدريس بمدرسة الفلاح منذ غرة ربيع الأول من عام 1356هـ ودرس الفقه، والتاريخ، والإملاء، والإنشاء، وواصل التدريس بها إلى أن انتقلت المدرسة إلى محلة الشبيكة، وأسند إليه أخيرا عمل «أمين المكتبة» حتى اعتزل العمل في أواخر شهر رجب من عام 1405هـ، وكانت مدة خدمته في المدرسة قرابة ثمانية وأربعين عاما.
درس على عدد من العلماء بمدرسة الفلاح والمسجد الحرام جاء سرد أسمائهم فيما أسعفته ذاكرته قائلا: «وخلال تلك الفترة التعليمية الحافلة مررت ببعض الأساتذة الأفاضل ممن لهم الفضل في تعليمي، وبعض الشخصيات ممن عاصرتهم في ذاكرتي، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الأستاذ المربي الفاضل عبدالله حمودة مدير المدرسة، والأستاذ محمد الطيب المراكشي، والأستاذ محمد العربي الجزائري التباني، والسيد أبو بكر الحبشي مدير المدرسة، والشيخ يحيى أمان، والشيخ حسن السناري، والسيد محمد أمين كتبي رحمة الله عليهم أجمعين.
وممن درست عليه أنا وأخي إبراهيم رحمه الله، وبعض الإخوان من الأساتذة مثل: إبراهيم سجيني، وحمزة خوج سواء في المسجد الحرام، أو في بيته، وفي غرفة برابط بقاعة الشفاء، كنا ندرس الفقه، والأصول، والفرائض، وبقية الأساتذة محمد عبدالماجد، محمد شيخ حمدي، حامد كعكي، حسن حسنين، والسيد علوي المالكي، والشيخ محمد نور سيف، والسادة إبراهيم نوري، وأخوه محمد، والأستاذ المربي السيد إسحاق عزوز، والسيد محمد رضوان، وكانا مديري المدرسة بالتعاقب، كما أذكر بعض الأساتذة ممن زاملتهم في مجال التدريس: الأستاذ أحمد عبدالماجد، والأستاذ عبدالرحمن دوم، والأستاذ قاسم شاولي، وغيرهم رحم الله من وافته المنية منهم، وأمد في عمر الباقين بالصحة والعافية وبارك الله فيهم».
عمل بتجارة الكتب مع والده بباب السلام ثم مع أخيه الشيخ عبدالشكور فدا بمكتبة النهضة الحديثة واستمرا بالعمل إلى أن انتقلا إلى محلة الشامية، ثم استقل بمكتبته (مكتبة الفكر العربي) بباب العمرة حوالي عشرين عاما إلى أن اعتزل التجارة عام 1410هـ لظروفه الصحية.
الشيخ عبدالحفيظ فدا من رجال التربية والتعليم المكيين، وأحد الأساتذة الفضلاء المرموقين، والمربين، القديرين سابقا بمدرسة الفلاح المكية، جمع بين عملين متجانسين، متوافقين: التدريس، وبيع الكتب (الوراقة) قلما تجتمع في فرد واحد، يمتلك ناصيتهما، ويبرز في آفاقهما.
الوراقة سابقا حرفة المثقفين من علماء وأدباء، كان لهم طابع وسمات خاصة لتشجيع الناشئة، ونصحهم بما يعود عليهم بالنفع في دراساتهم، كانت المادة وسيلة لديهم، وليست غاية، فلهذا أشاد بذكرهم كبار أدبائنا أمثال الشيخ عبدالعزيز رفاعي في كتابه (رحلتي مع المكتبات) وتلاه في التنويه بجهودهم العلمية، والمعرفية، وتعاملهم الرفيع مع عملائهم من المثقفين، والطلاب كتاب (مكتبات باب السلام في المسجد الحرام ودور مكتباته في النهضة العلمية والأدبية) وغيرها.
تميز الشيخ عبدالحفيظ رحمه الله تعالى بهدوئه، وحكمته، قليل الحديث، إذا تحدث فهو يتحدث بحكمة وتعقل، وفي إيجاز مفيد، يحترمه العلماء، فله في نفوسهم كل حب وتقدير، وبحكم احتكاكه بهم، وجمعه بين التدريس، وحرفة الوراقة فإن لديه الاطلاع الواسع، والمعرفة التامة بالكتب، وموضوعاتها، وإرشاد الطلاب إلى المفيد منها، مجلسه لا يخلو من عالم يذاكره، أو طالب علم ينصحه، ويفيده بما يحتاج إليه من كتب وإن لم يكن هذا ولا ذاك ذكر الله في نفسه، وتأمل ما حوله.
أثر مكتبة النهضة الحديثة في الحركة العلمية
تعد هذه المكتبة إحدى ركائز تاريخنا الحضاري في العصر الحديث، صاحبا هذه المكتبة الأخوان الشيخان عبدالحفيظ وعبدالشكور فدا ــ رحمهما الله تعالى ــ شخصيتان، متميزتان بخبراتهما الطويلة وممارستهما لهذا العمل منذ نعومة أظفارهما، مشهوران في الساحة العلمية لهما شهرتهما الواسعة داخل مكة المكرمة وخارجها، أصبحت هذه المكتبة بسبب هذا النشاط المتآزر بين الأخوين من أهم المكتبات بباب السلام التي تزود الساحة العلمية بأهم المصادر، والمراجع، والكتب النادرة، خصوصا المطبوع منها في دار الخلافة العثمانية، التي توقف الطبع فيها للكتب الإسلامية، كما يجد فيها الأدباء، وعاشقو العلم، والثقافة بغيتهم من الإصدارات الجديدة.
لهذه المكتبة أثرها الكبير في النهضة الثقافية في المملكة بما أمدت به الساحة العلمية من طبع الكتب، ونشرها، وتوريدها من البلاد الإسلامية، ومما يذكره التاريخ لهذه المكتبة أنه كان لها فضل الإسهام في تكوين المكتبات الجامعية في بلادنا مثل:
مكتبة جامعة أم القرى (كلية الشريعة والتربية سابقا)، ومكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، ومكتبة الحرم المكي الشريف، وتعد المصدر الرئيس في تكوين مكتبة الأديب الكبير معالي الشيخ محمد سرور الصبان التي ضمت أخيرا إلى جامعة أم القرى.
قامت مكتبة النهضة الحديثة في عهد الشراكة بين الأخوين الشيخ عبدالحفيظ، والشيخ عبد الشكور فدا بطبع كثير من المصادر، والكتب المهمة من أهمها:
• صحيح الإمام أبي عبدالله البخاري، عام 1376هـ فقد خدما هذا الكتاب الجليل خدمة جليلة غير مسبوقة، حيث نشراه نشرا علميا، استكتبا له العلماء المتخصصين، قام بتحقيقه، والتعليق عليه: العلامة محمود نواوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، ومحمد خفاجي. تمتاز هذه الطبعة عن غيرها من الطبعات بحل الرموز. وعمل فهارس للأحاديث. وعناوين الموضوعات، وأماكنها في الشروح المطبوعة.
• كتاب شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، تأليف العلامة الحافظ أبو الطيب تقي الدين محمد بن علي الفاسي، المكي المالكي (775 ــ 832هـ) الطبعة الأولى، بتحقيق، وتعليق لجنة من كبار العلماء والأدباء، وذلك عام 1956م، ضم في نهاية الكتاب مجموعة من الكتب والدراسات المهمة التي تتعلق بالحرمين الشريفين هي:
الملحق الأول: ولاة مكة المكرمة بعد الفاسي من تأليف العلامة المؤرخ المحدث الشيخ عبدالستار الصديقي الحنفي ابن المرحوم الشيخ عبدالوهاب المبارك المكي، البكري.
الملحق الثاني: الدرة الثمينة في تاريخ المدينة: للمؤرخ الحافظ الشيخ محمد بن محمود بن النجار.
الملحق الثالث: العمارة التي أدخلت على المسجد النبوي الشريف منذ إنشائه حتى فترة طبع الكتاب. وفوائد أخرى عن المدينة من كتاب توسعة الحرم النبوي الشريف للأستاذين: هاشم دفتردار، وجعفر فقيه.
الملحق الرابع: بعض آثار المدينة المنورة، والزارات، وغيرها. أعيد طبع هذا الكتاب وتصويره عدة مرات بعد هذه الطبعة، ووضع عليها أسماء بعض المحققين، ولكن تظل طبعة هذه المكتبة الأصح، والأفضل بينها.
ظلت مكتبة النهضة الحديثة شركة بين الأخوين الشيخ عبدالحفيظ فدا، وأخيه الشيخ عبدالشكور فدا، واستمر التعاون بينهما، بقيت الأمور كذلك حتى جاء أمر توسعة المسجد الحرام من الجهة الشرقية فاستقل كل واحد منهما بمكتبة خاصة به، استقل الشيخ عبدالحفيظ فدا، وأسس «مكتبة الفكر العربي»، واحتفظ الشيخ عبدالشكور فدا باسم «مكتبة النهضة الحديثة»، وأضاف إلى العنوان مطبعة ليكون «مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة».
مكتبة الفكر العربي
افتتح الشيخ عبدالحفيظ فدا مكتبته الجديدة «مكتبة الفكر العربي» بقاعة الشقا بحي الشامية، ثم انتقل بعد ذلك إلى باب العمرة في دكاكين مشروع الحرم الشريف.
أما دور هذه المكتبة في النهضة العلمية فقد نوه عنها الأديب الراحل الأستاذ عبدالغني ابن الأديب الشيخ عبدالله فدا رحمه الله قائلا: «قامت هذه المكتبة بدور كبير بإحضار كتب كثيرة من المكتبات المشهورة بمصر مثل: المكتبة التجارية الكبرى بشارع محمد علي، وأيضا دار المعارف بشارع الفجالة لإحضار كتب قصص الأطفال وغيرها من الكتب الأدبية، ومن مكتبة النهضة المصرية، وأخيرا المكتبة العالمية بالفجالة، ونشرت بعض المتون من الكتب العلمية، وأخيرا أغلقت أبوابها من أول عام 1408هـ.
في ما يخص كتاب التاريخ الحضاري (باب السلام ودور مكتباته في الحركة العلمية والأدبية الحديثة) فقد كان الشيخ عبدالحفيظ فدا وأخوه الشيخ عبدالشكور فدا رحمهما الله وقد أفنيا زهرة شبابهما في خدمة الكتب، ودرجا في ساحة مكتباته، فكانت لهما الخبرة الواسعة بهذا النشاط، والمعرفة التامة بأصحاب المكتبات به، لا جرم أن يكون الشيخ عبدالحفيظ وهو الأكبر سنا المعضد والمساعد، والمشجع على تشجيع مشروع هذا الكتاب فكان يرعى العمل، يسدد، ويذكر، ويصحح، فغدا لحضوره مع شقيقه الشيخ عبدالشكور فدا رحمهما الله تعالى الأثر الكبير لإبراز العمل، والتأكد من صحة المعلومات وإخراج كتاب (باب السلام) في شكل سليم قويم.
في سبيل إكمال هذا العلم كانت تضم ثلاثتنا جلسات وجلسات، متقاربة حينا، متباعدة حينا آخر، يتكرم الشيخ عبدالحفيظ فدا، وشقيقه الشيخ عبدالشكور بتشريفي بمنزلي في حي العزيزية لتدوين ما تجمع من معلومات، والتشاور في ما ينبغي عمله في كل مرحلة.
واصل الشيخ عبدالحفيظ رحمه الله متابعة العمل بعد وفاة أخيه الشيخ عبدالشكور رحمه الله، فكان المرجع المعتمد، والعون الكبير بعد المولى عز وجل، وحمد لأبناء أخيه جهودهم في إخراج كتاب باب السلام إخراجا يليق بمكان ومكانة المكتبات به التي كانت بحق معلما حضاريا جوار الحرم الشريف، تتوافق، وتنسجم، مع رسالة الهدى، ومنبع النور مكة المكرمة.
شاء المولى عز وجل بفضله وكرمه أن يرى هذا العمل التاريخي الحضاري النور والشيخ عبدالحفيظ في صحة جيدة والحمد لله، وتوالت زيارته في منزل ابنه المهندس خالد فدا حفظه الله بحي العزيزية بمكة المكرمة، فكان رحمه الله تعالى مغتبطا بإخراج هذا الكتاب، حاثا من يحضره على إبراز الجانب الحضاري لمكة المكرمة قبل أن يرحل البقية الباقية ممن حضر الحقبة التاريخية الماضية، ضاعف الله له الأجر على كل ما قدم لأمته وتراثها النفيس إنه سميع مجيب.
من الجدير بالذكر أن الشيخ عبدالحفيظ فدا يعد آخر المكتبيين بباب السلام، وقد سبقته وفاة الأستاذ عبدالله بن محمد سعيد العرابي، حيث توفي يوم الاحد 20 جمادى الأولى 1432هـ، الموافق 24 أبريل 2011م، رحمهما الله، ورحم السابقين من أبناء مهنتهم.
العزاء الجميل لأولاد الفقيد رحمه الله تعالى ذكورا وإناثا، ولذوي قرابته، وأصدقائه، وكل مهتم بالعلم والثقافة، والدعاء خالصا للمولى جل وعلا أن يسكنه فسيح جنانه، ويخلفه في كل من يعز عليه، والحمد لله رب العالمين.
* عضو هيئة كبار العلماء