الحداثة وانسداد الأفق التاريخي
الاثنين / 05 / ربيع الأول / 1427 هـ الاثنين 03 أبريل 2006 19:47
نجيب الخنيزي
يرتبط مصطلح الحداثة بعصر النهضة والأنوار الأوروبية (القرن الثامن عشر) ومفهوم الحداثة في محتواها وجوهرها عملية سيرورة يتم خلالها الانتقال من نمط معرفي إلى نمط آخر مغاير له، وهي بهذه الصفة تشكل عملية قطع وتجاوز للرؤية والتصورات التقليدية السابقة في فهم وتحليل وتفسير الواقع وصولاً لتغييره، وذلك باستخدام منهج علمي جديد، وتتبلور الحداثة من خلال تطور متصل ومتسارع في المعارف بأسئلتها ودلالاتها وأدواتها وأنماط الإنتاج ومجمل العلاقات الاجتماعية، وتغير سلم القيم والمعايير والسلوك والممارسة، وتؤكد الحداثة وجودها وحضورها من خلال استثارة وتفعيل الجوانب العقلية والعلمية والنقدية والتحليلية وقبول الآخر. وتجري هذه العملية في سياق تشكل اجتماعي (طبقي) وعلاقات أفقية، وديمقراطية وتعددية سياسية وثقافية، وانبثاق مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، الحداثة إذاً هي عملية متكاملة تقطع وتتجاوز الطرح المجازي والأسطوري والبياني والسلطوي والخطابي والعلاقات العامودية والتكوينات التقليدية، وفي الواقع فإن الدعوة في الغرب إلى تفكيك وتجاوز الحداثة (مابعد الحداثة) وتبيان حدودها ومحدوديتها وتناقضاتها إنما تتم علىأرضية الحداثة وباستخدام منهجها وآلياتها. ويتحدد الفارق الرئيسي بين حداثة الرأسمالية والبرجوازية الغربية من جهة، وحداثة البرجوازية التابعة الرثة في البلدان العربية من جهة أخرى في كون الأولى اعتمدت في نشوئها على مكوناتها ومقوماتها ومواردها الذاتية في المقام الأول، شكلت بمجملها قطيعة مع المجتمع الأبوي القديم، بينما الحداثة في المجتمعات العربية اتخذت شكلاً هامشياً وهجيناً وهشاً ضمن انفصام حضاري وتبعية وتخلف واغتراب عام يتمثل في التقابل والتعارض المفتعل ما بين القديم (الأصالة) والجديد (المعاصرة)، الخصوصية والكونية، النقل والعقل، النص والاجتهاد ويتم ذلك من خلال الهروب والانسحاب إلى الماضي وإسقاطه على الحاضر بصورة تعسفية أو الهروب إلى الآخر والتماهي معه، والسؤال المركزي هنا: لماذا لم تستطع المجتمعات العربية تمثل وإنتاج حداثتها وظلت أسيرة التخلف والإعاقة الحضارية ليس قياساً بالمراكز المتقدمة، وإنما مقارنة بتجارب وأوضاع مجتمعات كانت تعتبر حتى أمد قريب من البلدان المتخلفة؟ في الواقع فإن المشروع النهضوي العربي المجهض يعود في بداياته إلى منتصف القرن التاسع عشر (إصلاحات محمد علي في مصر) وقد سعت اليابان آنذاك للاستفادة من تلك التجربة عبر وفد أرسله الإمبراطور ميجي لمصر للاطلاع والاحتكاك ونقل الخبرة المصرية، والمفارقة هنا هي انطلاقة اليابان ويقظتها من سباتها الطويل وانفتاحها وتملكها لمنجزات الحضارة المعاصرة بدون عقد الماضي أو قيود الوعي والتقاليد البالية، بل إن تجارب تنموية لاحقة سبقت البلدان العربية بأشواط عديدة مثل الصين والهند وبلدان شرق آسيا وجنوب افريقيا، وفي المحيط العربي تحضر إسرائيل بإمكانياتها الصناعية والتكنولوجية والعلمية والعسكرية التي تفوق البلدان العربية مجتمعة. فوفقاً لتقارير التنمية العربية الصادرة عن الأمم المتحدة فإن المنطقة العربية تحتل الدرجات الدنيا إلى جانب الدول الافريقية وبعض دول أمريكا اللاتينية من حيث معدلات التنمية السياسية والاقتصادية ونوعية الحياة وتطور الموارد البشرية من قوى منتجة وإنتاجية عمل وتعليم وصحة وتوظيف، وفي مستويات توطين التكنولوجيا والعلوم ووسائل الاتصال ومراكز الأبحاث، إلى جانب ارتفاع معدلات المديونية والفقر والأمية والبطالة، ناهيك عن الوضع المتدني للمرأة وتهميش الأقليات، مما جعلها مرتعاً للحروب (الداخلية وفيما بينها) والعنف والتطرف والإرهاب. ويعزو البعض سبب ذلك إلى عوامل خارجية (نظرية المؤامرة) فيما يعزو آخرون السبب إلى عوامل داخلية تتمثل في البنى الفكرية والنفسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة التي تتسم بالتخلف والانقسام والانفصام وهيمنة الفكر الأسطوري التأملي ورسوخ العادات والتقاليد وقيم القبيلة والعشيرة والطائفة، وشيوع اقتصاديات ريعية ونشاطات طفيلية وهامشية غير منتجة، وهذا التخلف لا يتخذ مظهراً اقتصادياً أو تنموياً في المقام الأول بل إنه يقبع في أعماق بنية المجتمع الأبوي أو الأبوي المستحدث (وفقاً لهشام شرابي) ويشمل المجتمع والفرد معاً، ويتميز هذا التخلف بخاصيتين متميزتين هما غياب العقلانية في الرؤيا والممارسة، والشلل وعدم القدرة على الفعل وتحقيق الأهداف المستقبلية الموضوعية، ولدى التطرق إلى ماهية التخلف وأسبابه وسبل مواجهته وتجاوزه لابد من استنبات رؤية وطريقة تفكير ولغة جديدة تقارب الواقع وتكون أداة كاشفة له مما يفترض بالضرورة الابتعاد عن طرق التفكير واللغة المجازية والضبابية والمخاتلة التي تحجب وتغطي الواقع وتعمل على تعتيمه. ومع أنه حدثت تغيرات مهمة في بنية المجتمع العربي خلال القرن المنصرم على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلا أن ذلك لم يؤد إلى استبدال النظام القديم بنظام سياسي واجتماعي جديد، بل أدى إلى إضفاء نوع من التحديث المظهري (الشكلي) على ذلك النظام بتحويله إلى شكل نظام أبوي «مستحدث» يزعم أنه استطاع مواكبة الحديث دون انزواء أو قطع عن الماضي والتراث (الخصوصية) وفي الواقع فإن ما نراه هو بعيد تماماً عن الحديث والجديد أو التراث والماضي.. وللحديث صلة.