فوزي محسون .. سيد درويش الأغنية السعودية أو سيد الشجن

يحيى فرج المنديل *

يتسامى القلم حينما يكون الحديث عن الروائع، وأنا عندما أقصد التاريخ وجذوة الإبداع يتراءى أمامي العديد من صناع الحدث المؤثر الذين أمسكوا بتلابيب المجد من أوسع أبوابه.. ويأتي حديثي اليوم عن فنان ما زال يمكث في القلوب ويتربع على أفئدتنا بما قدمه من عطاء ثر، فقد كان نهرا متدفقا بالعطاء يخصب عقولنا بكل ما هو جميل.. الفنان الراحل فوزي محسون لم يكن فنانا يدندن ليشنف آذاننا مثله مثل كثير من الفنانين الذين ينساهم الزمن، لكنه كان بصمة في تاريخ الأغنية السعودية احتل فيها مكانا بارزا فكان مرجعا مهما عند تناول هذا الجانب بكل معطياته.. ترد عن غيره من الفنانين وهو يمتطي صهوة الإبداع بكل اقتدار، عشق الفن فأعطاه الفن حب الناس، تمرغ في التراث فأظهر محاسنه، فكان التفاعل معه يدغدغ المشاعر حين يحتضن العود ويندمج مع أوتاره، ليخرج لنا روعة الشجن لدرجة التيه.. من حظ هذا الفنان أنه ظهر في زمن يكتنز بالكثير من المبدعين الذين جسدوا للأغنية السعودية معانيها الأصيلة.. ومن أول وهلة وجد ضالته في الكثير من الأصوات التي يمكن أن ينفذ من خلالها ويقدم نفسه للساحة في ذلك الزمن الجميل.. ولد الفنان الراحل فوزي محسون في جدة، وله خمسة من الأبناء؛ ثلاثة أولاد وبنتان، عمل في بداية حياته في مصلحة البريد بجدة وقضي فيها 30 عاما، ظهر أول مرة في المسرح عام 1960م وكان ذلك بالصدفة أن التقى ببدايات الفنان الكبير الراحل طلال مداح ويومها كان من المفترض أن يقدم أغنية بصوته إلا أن ظهور طلال مداح في تلك الفترة تحديدا كمطرب جعله يهدي الأغنية لطلال مداح وأن يلحن ويتفرغ للتلحين لطلال ولغيره أكثر من أن يلحن لنفسه.
ساهم الفنان الكبير -رحمه الله- في نهضة الأغنية السعودية بأعماله الرائعة التي كان يمزجها ما بين الأصالة والمعاصرة، حيث كان يستلهم معظم أغنياته من التراث الحجازي الذي كان يعشقه، من أهم صفاته أنه كان يتمتع بخلق رفيع وبمشاعر إنسانية فياضة مليئة بالحب لكل الناس، كان متعدد المواهب فهو مغنٍ وملحن وكاتب، ومن أبرز ما كتب أغنية (ودي تكون لي يا حياتي كل شيء). أعجبت أم كلثوم بألحانه وأخذ بليغ حمدي -رحمه الله- مقطعا من أغنيته (عشقته) وهو يلحن كلثوميته الشهيرة أغنيتها (الحب كله) وبحثت عنه عميدة كلية الفنون الأمريكية في الجامعة الأمريكية في الكويت ليسا يوركوفيتش، وحزنت كثيرا لأنها لم تتمكن من لقائه لوفاته.. قال عنه الموسيقار الكبير سراج عمر «إن الفنان فوزي محسون يعتبر سيد الأغنية السعودية وقد ساهم في بروز الفنان الكبير طلال مداح» أما الشاعر صالح جلال فقال: الفنان فوزي محسون أحبه كل الناس لما يتمتع به من خلق وتحلٍ بالصبر والتواضع حيث أحس بمسؤولية هوايته وفنه.. أما الصحفي والمؤرخ الفني الراحل جلال أبو زيد أجمله «لم يكن فنانا عاديا». غني كثيرا للتراث ولم ينسب أي لحن من الأغنيات له رغم إسهامه في تطويرها وتحديثها كما فعل مع الدانة القديمة الشهيرة (يا طير لماذا الصياح) حيث قدمها بشكل متطور وحققت نجاحا منقطع النظير، كما قدم لون المجرور والسامري في (لا تحسب إني، اتعانه ويتمنه وأساله) لسمو الأمير سعود بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود وألوان أخرى فكان مدرسة متفردة في عشق التراث.. حتى لقب بـ(سيد درويش) السعودي. كون مع الشاعرة الكبيرة ثريا قابل ثنائية حيث قدما الروائع من الأعمال الشعبية الذهبية التي ستظل خالدة في وجدان الناس والتي ما زال صداها يتردد إلى يومنا هذا، فمعظم أعماله كانت تشجي الأسماع حتى لقب بسيد الشجن كواحد من ألقابه المتعددة التي أطلقتها عليه الصحافة السعودية. أيضا غنى كثيرا للشاعر الكبير الراحل صالح جلال الذي كون ثنائية فنية عظيمة معه، كما أن طلال مداح كان أكثر الفنانين الذين لحن لهم العديد من الأغنيات حيث كان صوت طلال يلهمه.
أشهر أغنياته: (عتبي عليك كله عشم)، (سبحانه وقدروا عليك)، وأغنية (قديمك نديمك)، وأغنية مس ورد الخد؛ وهي من التراث اليمني وأغنية (يا حبيبي يا حياتي) للشاعرة ثريا قابل غناها الفنان طلال مداح وأغنية (مين فينا يا هل ترى) للشاعر يوسف رجب التي كتبها معه خمسة شعراء ومن ألحان الموسيقار سراج عمر، و(من بعد مزح ولعب) لثريا قابل، و(الله عليك من عنود) لعبدالعزيز شكري. وأيضا من أجمل ألحانه التي نالت شهرة واسعة اغنية (ياللي جمالك) للشاعر صالح جلال وغناء طلال مداح ولحن أغنية (أديني عهد الهوى) للشاعر ثريا قابل وغناء طلال مداح، كما لحن أغنية (الهوى لو تمنى) للشاعر بدر بن عبدالمحسن وغناها هو وطلال مداح.. ولحن أغنية (هنوا العروسة) التي غناها الفنان الكبير محمد عبده كما لحن من الألحان أغنية بشروني عنك.. هذه بعض من النماذج التي ذكرتها حيث تزخر المكتبة الفنية السعودية بالكثير من الأعمال لهذا الفنان الكبير رحمه الله.
من كلمات فوزي محسون رحمه الله: ودي تكون لي يا حياتي كل شيء.
أعجبت أم كلثوم بما قام به من لزمات موسيقية وتعديلات على المجرور في أغنية (عشقته ولا لي في المقادير حيلة) التي لحنها وهي من كلمات الشاعرة ثريا قابل فأخذها وأضافها الموسيقار بليغ حمدي في مقدمة أغنية الحب كله لأم كلثوم. عندما قامت الباحثة الأمريكية وعميدة كلية النون (ليسا يوركوفيتش) بدراسة ألوان الفلكلور في الجزيرة العربية وتذوقت أعمال فوزي -رحمه الله- اجتهدت في مقابلته ولم تستطع لأنه قد مات وختمت بحثها عنه بعبارة «كم تمنيت لو لم يزل على قيد الحياة». وكذلك اللون السامري في عدة أعمال منها: (لا تحسب إني دالة عنك ناسيك) من كلمات سمو الأمير سعود بن محمد بن عبدالعزيز. أما الأغاني التي لحنها خصيصا لزملائه ولم يغنها مطلقا مثل (لسه برضه جي تعاتب، يالي جمالك، لا تصدق روح وفكر لطلال مداح رحمه الله، و(لا وربي للفنان محمد عبده) وغيرها. من أشهر أغانيه من كلمات ثريا قابل (أديني عهد الهوى، من بعد مزح ولعب، عشقته ولا لي، جاني الاسمر، متعدي وعابر سبيل، ما عشقت غيرك ولا، حاول كده وجرب، مين طغاك علي، يا حبيبي يا حياتي يا عيوني، يا من في قلبي غلاه). ومن كلمات صالح جلال (سبحانه وقدروا عليك، روح أحمد الله وبس، ومن فتن بيني وبينك، ومتعدي وعابر سبيل، وعتبي عليك). ومن أشهر أغانيه لسمو الأمير بدر بن عبدالمحسن (غادي، وناعم يا ندي، وعيني يا ولهانه) ولسمو الأمير خالد الفيصل (بشروني عنك). أما الدانات فمنها (قال الجميعي، بات ساجي الطرف، الله يا عالم بالضمائر قال يحيي عمر.. أما اللون والفلكور اليمني فمنها (أغنية رحمن يا رحمن، عظيم الشأن، قال ابن الأشراف) اول من كرم فوزي محسون بعد وفاته -رحمه الله- هو سمو الأمير بدر بن عبدالمحسن في المهرجان الذي أقامته دولة قطر احتفاء بأشعار (في ليلة البدر) ثم في جمعية الثقافة والفنون بجدة ثم أصدقاؤه ومن وجهاء المدينة المنورة ووسطها الفني الذي يدعمه طريف بن حسين آل هاشم. التكريم الحقيقي لفوزي محسون هو الدعاء له بالرحمة فهو ما يفيده الآن.
* مؤرخ وناقد فني سعودي من جيل الرواد