هل يصل التقمص الإبداعي بالموهوبين الحقيقيين حد الموت ؟

كان منهم سعاد وزكي وعبدالحليم

هل يصل التقمص الإبداعي بالموهوبين الحقيقيين حد الموت ؟

علي فقندش (جدة)، محمد فؤاد القرعي (القاهرة)

هناك مهنتان إذا زاد التعامل الاحترافي فيهما نجد أنه في الغالب ينتهي بصاحبه إلى المرض وأحيانا الموت نفسه «اللهم لا اعتراض»، في رأينا أن أولى هاتين المهنتين هي العسكرية، حيث إن الجندي إذا دخل حربا تجده يتوقع الإصابة أو حتى الموت بدرجة كبيرة والذي يجد نفسه في العسكرية يتوقع ذلك ويتنبه ويستعد له منذ أول يوم فى تدريبه.
أما المهنة الثانية التي تصل بصاحبها حد المرض أو الجنون أو الموت فهي مهنة الإبداع والمقصود هنا الإبداع المكثف إلى الحد الذي ينقلب بصاحبه من رجل عادي إلى رجل غير متوازن فى نظر الكثيرين، بداية من ديموجين «المفكر الإغريقي» الذي كان يحمل مصباحا فى عز النهار، وانتهاء بمقتل الفنانة العربية سعاد حسني فى لندن. لذا نشأت هنا أسئلة عديدة منها.. هل يحمل الإبداع فى ذاته بوادر الضياع لصاحبه لأنه شخص غير عادي فيصيبه ما لا يصيب الشخص العادي. وهل هذا يؤكد المقولة الشهيرة «بين العبقرية والجنون شعرة خفيفة». وهل هذه الشعرة تصل أحيانا حد الهلاك.
إن الإبداع هنا يشمل أهل الفن والثقافة والأدب والفكر والذي ينظر إلى نمط ومعيشة حياتهم يعتقد أنهم فى قمة السعادة نظرا للشهرة والمال اللذين يتمتعان بهما أو يبدو هكذا، ولكن يتضح بعد ذلك أن سعادتهم هي وهم لتغلب الاحترافية والإبداع عندهم والذي غالبا ما يحمل الإبداع معه روحا وثابة وضميرا حيا وعقلا متيقظا وفكرا سابقا لوقته، وتوجد نماذج كثيرة تؤكد ذلك ولنبدأها بالتمثيل.
المهن التمثيلية
التمثيل وهو ما اتفق على تسميته التشخيص ومعناه تجسيد الشخصيات أمام الجمهور، وكان الممثل البارع هو الذي يقدر على التقليد لأية شخصية، وفي الوقت الحاضر يسمى التشخيص بالتمثيل ويسمى التجسيد بالتقمص ولم يعد التقليد دلالة على الأداء الجيد، بل شدة التقمص هي التي تظهر العبقرية للفنان، ولكن شدة التقمص هذه قد تؤدي بالفنان إلى مشاكل كثيرة وقد تؤدي به إلى الانتحار أو الموت، وكلما كانت الموهبة أشد كلما كانت المصيبة أكبر، ولذا تظهر مصائب وحالات انتحار كثيرة بين نجوم الفن، كما تبدو حياتهم مختلفة عن باقي حياة الآخرين، ولهم حساسية وفكر وسلوك مختلف أيضا. ونستعرض بعضا من آثار هذا التقمص لبعض الفنانين المشاهير..
جاهين .. الوطني المكتئب
أول المبدعين المكتئبين في معظم أوقاتهم هو المصري صلاح جاهين المتعدد المواهب فهو الشاعر والرسام والصحافي والممثل وكاتب الأغاني والأهم أنه كان مكتشف المواهب ومتبنيها. وقد تجمعت كل هذه المواهب داخله من خلال وطنيته والدعوة إلى مبادىء الثورة والقومية العربية والنهضة والتحرر وقد ظهر ذلك واضحا في أشعاره وخصوصا رباعياته والأهم أغاني الثورة التي رددها وراءه الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج. لقد كان هو المترجم والمعبر عن الأمة العربية بحق. وكان يكتب من كل قلبه ولذا حين جاءت نكسة عام 67 صدم صدمة شديدة أذهلته وأقعدته حزينا مهموما منكسرا وتحول إلى مكتئب كبير بعد أن كان يملأ الدنيا مرحا وصخبا. واستمر هذا الاكتئاب ملازما له حتى مع انتصار أكتوبر ظل مكتبئا ولم يخرج من هذا الاكتئاب حتى وفاته.
زكي .. يموت متقمصا
أما تلميذ جاهين الذكي فهو أحمد زكي خير من تقمص في العالم العربي والذي كانت نهاياته بسب هذا التقمص وقد أجاد فى تقمص شخصيات شهيرة عديدة مثل عميد الأدب العربي طه حسين والزعماء السياسيين جمال عبدالناصر والسادات ثم كانت النهاية مع شخصية فنية هي المطرب عبدالحليم حافظ الذي يشبه أحمد زكي في أشياء كثيرة فهما من مدينة واحدة ولهما الطموح نفسه والموهبة والأمراض والنهايات، ولذا فقد كان من السهل أن يجسد أحمد زكي توأمه فى الموهبة، ولكن كانت المشكلة في توقيت التجسيد. حيث كان أحمد زكي مريضا وعلى فراش الموت والمطلوب تجسيد مرض عبدالحليم ووفاته، وهنا كانت المفارقة، حيث تعمق أحمد زكي في تقمصه في حالة مرض الموت حتى مات هو بالحقيقة وهي حالة نادرة في التقمص أدت إلى الموت، ثم أكمل الفيلم بابنه هيثم بتجربة غير موفقة لم تضف للفيلم ولم تنجح الفكرة. نفس الأمر كان مع الفنان ممدوح وافي وهو من أبرز (السنيدة)، الذين هم أصحاب الدور الثاني (مساندو البطل)، وهو أيضا الصديق الأقرب للراحل أحمد زكي، الذي يكاد مشاركا له في كل أعماله الفنية سينمائيا ومسرحيا وتلفزيونيا إلا ما ندر، وله قصة مع الموت، حيث ذهب إلى باريس لعيادة أحمد زكي الملازم لسريره في المستشفى دون أن يعلم أنه هو أيضا مصاب بالسرطان، وبينما الحديث يطول بينهما وصولا إلى أهمية الكشف بين فترة وأخرى، دخل ممدوح الكشف في المستشفى نفسه ليعرف أنه مصاب بالسرطان، وفي مراحل متأخرة، وبالفعل لم يلبث أن عاد ممدوح وافي إلى مصر ليموت قبل صديقه أحمد زكي، ويطلب الأخير دفنه في مقابر عائلة زكي. وعن هذه المصادفات كان سبب اعتزال الفنانة الكبيرة شادية اكتشافها إصابتها بالسرطان صدفة، والقصة بدأت عندما دعاها طبيب صديق إلى جانب عدد من نجوم الفن لحفل افتتاح مستشفى أورام خاص به وليجري للكل فحوصات أورام، لتعلم فجأة أنها مصابة بسرطان الثدي ليتم استئصاله، وتتحجب نجمتنا الكبيرة وهي في جوهر ألقها عند تقديمها المسرحية الشهيرة «ريا وسكينة» مع سهير البابلي.
سعاد حسني .. انتحار أم قتل
أما الموهوبة سعاد حسني وهي أيضا من تلاميذ صلاح جاهين وعبدالرحمن الخميسي ومن أبرع من تقمصت على الشاشة وكانت تتمتع بموهبة خارقة جعلتها سندريلا الشاشة واعتزت هي بهذا اللقب جدا وشعرت بمدى حب الجماهير لها وبمدى ارتباط النخبة وتدليلها لها.
وحين أصيبت بالمرض وشعرت أنها تحتاج للآخرين أصيبت بالاكتئاب وزاد من هذا الاكتئاب سماعها بأن الدولة تتجادل في علاجها على حسابها. ومع إطالة مدة العلاج وبعض الأخطاء الطبية زاد وزن السندريلا زيادة كبيرة أثرت على نفسيتها كثيرا، فهي لا تتخيل شكلها أمام الجماهير بهذا الحجم، واعتقدت أن الجماهير لن تقبلها بعد ذلك، وهي التي تعودت على أن يدللها الجميع، ولم تحتمل تلك الفكرة فكان التفكير في الانتحار هو الحل لتلك المشكلة النفسية والناتجة من عظم الموهبة والحساسية، أم أن غيابها كان نتيجة تصفية وجريمة قتل كما أشير تلميحا وفي بعض الأحيان تصريحا إلى أن جاءت حالها المأساوية ونهايتها بتراجيديا لم يعلن بعد عن بطلها.. مجرمها ليس من فرق.
عبدالحليم .. التقمص الغنائي يأكل كبده
والتقمص ليس فى التمثيل فقط بل أيضا فى الغناء، وخير من يمثل ذلك هو المطرب الراحل عبدالحليم حافظ الذي اهتم بموهبته واندمج فيها اندماجا كبيرا أثر على تطور مرضه فقد كان يجهد نفسه كثيرا في البروفات والسهر ويجامل كل الناس لحرصه الشديد على أن يظل فى المقدمة وفي قلب وعقل الناس دائما.
وفي أول حياة عبدالحليم الغنائية كان يغني الأغنيات العاطفية الخفيفة، ثم تطورت إلى أغان وطنية كان مؤمنا بها إيمانا كبيرا، وتقمص دور الزعيم الوطني بصوته وتبعته الجماهير. وبعد ذلك تطور غناؤه إلى غناء القصائد والأغنيات الطويلة التي ظهر فيها تقمص عبدالحليم بحيث لم يظهر وهو يغني بل وكأنه يؤدي ويعيش بكل دواخله مع الغناء، وكانت أغنيته الأخيرة (قارئة الفنجان) خير مثال على ذلك، حيث وضح تقمصه في طريقة الأداء، ومع زيادة التقمص زاد الألم والمرض ما أدى به في النهاية إلى الموت وهو يعاني المرض.
الفخراني .. شخصية طغى عليها التقمص
أما خير من جسد الشخصيات حتى طغت شهرة تلك الشخصيات عليه فهو الفنان يحيى الفخراني، الذي يشتهر كل عام باسم الشخصية التي يجسدها، ومثال على ذلك اشتهاره عدة سنوات بشخصية الباشا سليم البدري في المسلسل الأشهر (ليالي الحلمية)، وآخر تلك الشخصيات في السنوات الأخيرة هي (رحيم) في مسلسل (الليل وآخره)، وشخصية عباس الأبيض في مسلسل (عباس الأبيض في اليوم الأسود)، وشخصية الدكتور مصطفى الهلالي في مسلسل (سكة الهلالي). وهذه الشخصيات اندمج فيها الفخراني تماما، ويأخذ وقت التحضير لها والتعايش معها والتركيز فيها الكثير، فهو لا يندمج اجتماعيا مثل باقي الفنانين إذ لا يحضر مناسبات كثيرة ولا يشغل نفسه بالظهور الإعلامي، وهذا جعله مركزا في شخصياته وأدواره، وأي دور يستطيع أن يدخل في تفاصيله حتى يسيطر عليه تماما، وحتى يهرب من سيطرة أية شخصية عليه فهو يحاول الدخول في الشخصية الجديدة سريعا للهروب من هذا المأزق.
عقدة نازك السلحدار
والفنانة صفية العمري عاشت فترة طويلة، أكثر من سبع سنوات، أسيرة شخصية نازك السلحدار في مسلسل (ليالي الحلمية)، وكانت أشهر سيدة عربية طوال تلك السنوات. وشخصية نازك السلحدار هي امرأة ثرية من الطبقة العليا وهي امرأة قوية وجميلة ومتسلطة وأنيقة وكثيرة الأزواج وصدامية، وقد جذبت هذه الشخصية الكثير من الرجال والنساء، وكان أحد الأسباب الرئيسية التي رشحت صفية العمري لأن تكون سفيرة للنوايا الحسنة التابعة للأمم المتحدة.
وكانت المشكلة الأكبر هي قرب الانتهاء من تصوير الشخصية، فقد وصلت نازك السلحدار إلى مرحلة سنية متقدمة وتجسيدها في هذه المرحلة بالعمق نفسه يتطلب معايشة كبيرة جدا أثرت على نفسية وصحة وسلوك شخصية صفية العمري الحقيقية.
ورغم مرور سنوات عديدة على أداء الشخصية فإن الكثيرين ما زالوا يربطون بين صفية العمري ونازك السلحدار وكأنهما شخصية واحدة، رغم أدائها للكثير من الشخصيات الدرامية الأخرى بعدها.
الشريف .. يعيش حسب الشخصية
والفنان نور الشريف الذي تقمص المئات من الشخصيات المتنوعة تقابله أزمة خاصة في حياته بسبب تلك الشخصيات. فهو يتصرف في كثير من الأحيان حسب طبيعة الشخصيات التي يقوم بها، فهو مثلا يكون هادئا حين يمثل شخصية ذات طابع هادىء وينقلب ذلك على حياته، وأقرب مثال على ذلك هو أداؤه لشخصية الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز، والمثال الآخر أداؤه لشخصية الخليفة هارون الرشيد فى مسلسل هارون الرشيد، حيث بدا عصبيا في تصرفاته. والذي يشعر أكثر بتلك المشكلة هم عائلته، وهو لا يحاول أن تتعدى أزمة عائلته وداخل البلاتوه.
وهو يتذكر أيضا أيام تأديته لشخصية عبدالغفور البرعي في مسلسل (لن أعيش في جلباب أبي)، حيث ظهرت عليه صفات الصبر والهدوء. وهو الآن يريد تجسيد شخصية (كمال) التي ظهرت في سلسلة أفلام الثلاثية لنجيب محفوظ لأنه مثلها وهو صغير السن والمكانة يومها، وكان وقتها يفهمها ولكنه الآن يستطيع الدخول فيها بعمق وبدون ماكياج وبإحساس عال جدا. وهو الآن سعيد بشخصية الأستاذ عبدالحميد دراز في مسلسل (حضرة المتهم أبي) لأن الشخصية من الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها ويدافع عنها ويطالب بالحفاظ عليها لأنها هي أصل التنمية.
إلهام .. التجسيد جعلها عصبية
الفنانة إلهام شاهين تعودت على الخوض في أعماق الشخصيات، ومن كثرة هذا التعمق أصيبت بالعصبية الزائدة في حياتها، لأنها حين تدخل في شخصية تغوص في أعماقها وتنسى معها شخصيتها الحقيقية، ولكثرة الشخصيات التي أدتها ومزجها معا وتقلبها في الصفات والسلوكيات أصبحت هي الأخرى متقلبة الصفات وأصبحت العصبية هي الصفة الأبرز لديها، وكان أسلم حل لتلك المشكلة هو أن تكون من المتعاملين مع الأطباء النفسانيين، فقد ترددت عليهم كثيرا، وكان لها دكتور نفسي خاص في فرنسا تذهب إليه كل فترة، ومع الخبرة صارت إلهام أهدأ الآن.
ليلى .. تعيش دائما في حالة توأمة
والفنانة ليلى علوي من الفنانات اللاتي يعشن حالة من التناقض والصراع الداخلي بسبب الشخصيات التي تمثلها لأن تلك الشخصيات لها صفات مختلفة عن شخصيتها الحقيقية، ولكن لشدة حبها وعمقها لتلك الشخصيات تترك أثرها فيها مما يجعل صفات تلك الشخصيات تندمج مع صفاتها الشخصية، ومن هنا يحدث الصراع الداخلي.
والفنانة ليلى علوي تزور الأطباء كل فترة وتأخذ بنصيحتهم، وهي تضرب المثل بالتناقض الذي وقع لها، ودخلت في أزمة نفسية بسببها، كأدائها لشخصيتين متناقضتين في مسلسل (التوأمان) وكانت الشخصيتان عبارة عن أختين إحداهما طيبة والأخرى شريرة، ووقتها حدث لها صراع داخلي كبير لأنها كانت تمثل الشخصيتين في الوقت نفسه،
وهكذا فإن التقمص الفني له وجه آخر غير الشهرة والمال، وجه لا يعرفه الكثير من الجمهور المستمتع بهذا التقمص، وهو أيضا وجه لا يعاني منه إلا الفنان وأهله، وهي إحدى الضرائب التي يدفعها الفنان المخلص لعمله. وهي وإن كانت تبدو ضريبة قاسية نوعا ما للفنان إلا أن نتيجة عمله تأتي فى صالحه مقارنة بالفنانين الآخرين الذين يؤدون عملهم بروتينية ويمرون مرور الكرام على ذاكرة الجمهور.
ومن ضحايا الإبداع المفضي للمرض أو الموت عند المبدعين في الغرب كانت العديد من الأمثلة، كانتحار الروائي الأمريكي أرنست همنجواي صاحب الرواية الشهيرة (العجوز والبحر)، الذي أطلق على نفسه الرصاص من بندقيته، وانتحار الممثلة مارلين مونرو أجمل ممثلة وهي في الثلاثينات، وانتحار الأديب والكاتب الروسي الشهير ليو تولستوي، الذي وزع أرضه قبل موته واعتزل الناس حتى مات أو انتحر، وجنون الرسام الهولندي فان جوخ وقطعه أذنه ليعطيها لحبيبته ثم انتحاره.